بعد عامين من انطلاق "طوفان الأقصى"، قدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطة بشأن وقف الحرب وإدارة غزة، اختلفت حولها الآراء، بين من يراها انتشالا لنتنياهو من وحل غزة، ودعوة صارخة لاستسلام المقاومة، وتمكين إسرائيل عبر الدبلوماسية من حصد ما عجزت عن فرضه بقوة السلاح، ومن يراها فرصة لأهل غزة كي يلتقطوا أنفاسهم، ويمكثوا في أرضهم، ويعيدوا إعمار ما تدمر.
وقد انصبت الأقلام والألسنة التي تناولت هذه الخطة على مضمونها، ونوايا أطرافها، وغياب أي ضمانات لالتزام إسرائيل بتنفيذها، لكن كثيرا مما تم طرحه كتابة وشفاهة، على اختلاف اتجاهاته، وقع في فخ المغالطات التقليدية التي تراكمت على مدار عامين بخصوص "طوفان الأقصى"، وتم بثها في الفضاء الإعلامي، لا سيما في الشهور الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتوارت قليلا مع الانشغال بالفصول اليومية للدم والرماد في غزة، ثم ها هي تعود مع "خطة ترامب"، التي لم يخلُ عقل من وضعوا بنودها من هذه المغالطات أيضا.
وأولى هذه المغالطات هي اعتبار السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة البداية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بينما الحقيقة تقول إن الفلسطينيين، وفي وقت مبكر جدا، استشعروا خطر هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين، فكونوا عام 1906 حزب "الاتحاد" للتصدي سلميا لهذا التوجه، وإنهم منذ ذلك التاريخ لم يكفوا عن مقاومة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي سواء عبر الطريق المدني السلمي، أو من خلال النهج المسلح.
والمغالطة الثانية، هي أن طوفان الأقصى كان انجرافا جامحا في اتجاه المواجهة المسلحة، وكان من الأفضل ألا يتم. لكن أصحاب هذا الاتجاه، وبعضهم بالقطع يتعاطف مع القضية الفلسطينية وأهلها، ينسون أن النخبة السياسية الفلسطينية ارتضت السلام طريقا، ووقعت اتفاق أوسلو عام 1993، لكن تل أبيب رفضت تنفيذ بنود المرحلة النهائية من الاتفاق حول السيادة والحدود والمياه ووضع القدس، ثم فرغته من مضمونه، ما جعل قطاعا عريضا من الشعب الفلسطيني يدرك أن التفاوض لن يؤدي إلى شيء، لا سيما في ظل تواصل الاستيطان في الضفة الغربية، وإحكام حصار غزة، ورفض إسرائيل المتكرر حل الدولتين.
أما المغالطة الثالثة، فتقع حين يظن البعض أن ما قامت به إسرائيل على مدار العامين الفائتين هو أمر جديد، سواء في القتل أو التدمير، لكن جردة حساب للمواجهات السابقة بين المقاومة في غزة والجيش الإسرائيلي والتي وقعت في أعوام 2008 و2014 و2021، تبين بوضوح أن ما يجري الآن مختلف فقط في الدرجة وليس في النوع، إذ شهدت المواجهات الثلاث السابقة استشهاد وإصابة الآلاف من الفلسطينيين، وتدمير آلاف البيوت، كل ما في الأمر أن الحرب هذه المرة قد طالت، بينما لم يكن دورانها سابقا يزيد على أربعين يوما، فتزايد القتل والتدمير الممنهج.
والمغالطة الرابعة، هي أن العدوان الإسرائيلي كان رد فعل على هجوم المقاومة، وينسى أصحاب هذا الرأي أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لم يتوقف، وإن خفت درجته يقتصر على الاغتيال، وذلك وفق التصور الإسرائيلي الذي يسمى "جز العشب"، أي القضاء على قدرات المقاومة أولا بأول، سواء البشرية منها أو المادية.
كما يغفل هؤلاء أن إسرائيل لم تتوقف عن العدوان، متنوع الأشكال، على أهل الضفة الغربية مع أنهم لم يرفعوا سلاحا في وجه الجيش الإسرائيلي إلا بشكل اضطراري، وهو سلاح خفيف وبسيط.
والمغالطة الخامسة، هي التي تتجاهل أن غزة محتلة، وأن الجيش الإسرائيلي، إن كان قد خرج منها مجبرا، فإنه يحاصرها بقسوة، وأن السبب الرئيسي لكل ما جرى هو الاحتلال لا مقاوموه.
وأصحاب هذا التوجه ينكرون حق المقاومة في مناهضة المحتل، رغم أنه مصون وفق قواعد القانون الدولي، خصوصا اتفاقية جنيف التي أُقرت عام 1948.
أما المغالطة السادسة، فهي تلك التي يتعامل أصحابها مع قطاع غزة على أنه مملكة صغيرة أو إمارة أو دويلة ذات سيادة.
فمثل هذا التصور ينظر إلى ما يجري باعتباره حربا، مع أنه في الحقيقة حلقة من سلسلة العدوان الإسرائيلي المتكرر على أهل غزة، كما لا يراعي هذا الاتجاه عدم التكافؤ في القوة بين قطاع غزة الذي يصنع سلاحه البسيط في ظل الحصار، وبين إسرائيل المفتوحة قدرات جيشها على أحدث ما أنتجته المصانع الحربية في العالم، وأعلى التقنيات في القتال وجمع المعلومات.
وأخيرا تأتي المغالطة السابعة، ويرى أصحابها أن قرار هجوم المقاومة على الجيش الإسرائيلي لم يخضع لدراسة متأنية، وأن تحليل الوضع في داخل إسرائيل، حيث التحولات الاجتماعية المرتبطة بصعود اليمين المتطرف، وتعزز قوة المستوطنين، والأزمة السياسية للحكومة، وكذلك تحليل الوضعين الإقليمي والدولي، كان سينتهي إلى التريث في إطلاق العملية، أو إلغائها.
لكن مثل هذا التصور ينسى احتمال أن نتنياهو كان في حاجة إلى الهروب إلى الأمام، ولذا فشنه حربا ضد قطاع غزة كان آتيا لا محالة، وربما أرادت المقاومة أن تسبقه، لتقنص أسرى تتخذهم وسيلة لإجهاض العملية الإسرائيلية في مهدها، لكن الإهانة البالغة للجيش الإسرائيلي، والتي لم يتوقعها المقاومون أنفسهم، جعلت نتنياهو يتصرف بطريقة مختلفة، وفق "الخيار هانيبال"، لا سيما أنه وجد في الحرب الدائمة فرصة سانحة للتهرب من المساءلة.
بالقطع فإن التاريخ لا يعرف "لو"، إذ له صيرورته وخط سيره الذي تحدده عوامل وعناصر غاية في التعقيد، وربما الغموض أحيانا، لكن ما يمكن قوله بعد عامين من انطلاق "طوفان الأقصى"؛ إن خلاصة ما جرى على مدار عامين: عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد ذبول وأفول، بل كبرت في عين العالم، بينما تراجعت سرديات إسرائيل، وذبلت وإلى أفول في أذهان أغلبية الناس في مشارق الأرض ومغاربها، لا سيما جيل "زد" الذي ستكون له الكلمة في قابل الأيام، ووقتها ستتم مراجعة كل شيء.
قامت إسرائيل وكبرت بسردية كاذبة؛ وها هي السردية الحقيقية تضربها يمنة ويسرة، فتهتز أركانها، وقد تقبل بعد سنين ما كانت تظن أنه لن يأتي أبدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.