غزة- في أحد أزقة مدينة غزة ، حيث تتعالى أصوات القصف وتتناثر رائحة البارود، وسط ركام الذاكرة ومرارة النزوح المتكرر، صنعت أريج عرندس -السيدة الغزية- من مطبخها المتنقل ملاذا جديدا للحياة، أطلقت عليه اسم "مشروع الأريج للمخبوزات والمعجنات"، لم يكن الأمر مجرد محاولة للبقاء، بل فِعل مقاومة ناعم، يناضل بالدقيق والفرن بدلا من السلاح.
أريج، وهي أم في الثلاثينات من عمرها ومعيلة لأسرتها، خاضت الحرب والنزوح مرات عدة، وفي كل مرة كانت تعود إلى نقطة الصفر، تحمل مشروعها معها كطفل صغير يحتاج للرعاية، ورغم الألم والخسائر، كانت تُعيد تأسيسه بإصرار، لتؤكد أن المرأة الغزية قادرة على صناعة الحياة حتى من العدم، فمشروعها ليس مجرد طعام، بل رمز للصمود والتحدي في وجه الحرب والحصار.
انضمت أريج إلى مشروع "الصلادة الاقتصادية"، الذي ينفذه اتحاد لجان العمل الزراعي في قطاع غزة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يستهدف تمكين النساء النازحات والمتضررات من الحرب، وحصلت على دعم تقني ومادي ساعدها في استعادة نشاطها الغذائي الصغير، وتحويله إلى مصدر دخل مستدام.
"أنا مش بس ببيع خبز ومعجنات.. أنا ببيع أمل لأولادي وجيراني"، تقول أريج بابتسامة متعبة، وتضيف للجزيرة نت "كل مرة أنزح فيها أبدأ مشروعي من الصفر.. لكني ما فقدتش الأمل، المشروع رجّعلي ثقتي بنفسي".
في قلب الأزمات المتلاحقة التي يعيشها قطاع غزة، يواصل الفلسطينيون البحث عن أدوات للبقاء، ومن بين هذه الأدوات برز مشروع "بناء الصلادة الاقتصادية" الذي ينفذه اتحاد لجان العمل الزراعي، ليضع النساء في مقدمة معركة الصمود الاقتصادي والاجتماعي.
يقول بشير الأنقح، مدير العمليات والمشاريع في الاتحاد للجزيرة نت "إن المشروع ليس مجرد مبادرة إنتاجية، بل جزء من برنامج أوسع للتمكين الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز الإنتاج المحلي.
ويوضح "الهدف الرئيس هو تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه عبر تطوير الجمعيات الزراعية والمصانع المتوسطة وبناء قدرات النساء، بما ينعكس على الأمن الغذائي لاسيما في ظل الحرب و الحصار و المجاعة ".
ويكشف الأنقح عن آلية اختيار المستفيدات بالقول "تم الإعلان عن المشروع بشكل مفتوح، وتقدمت النساء عبر نموذج إلكتروني، بعدها جرى تحليل الطلبات والقيام بزيارات ميدانية للتحقق من البيانات، فيما تم اعتماد معايير دقيقة، منها أن تكون المرأة معيلة لأسرتها، ولديها خبرة في التصنيع الغذائي، أو تملك وحدة قائمة بحاجة للتطوير".
وبحسب الأنقح، فإن تشغيل الوحدات النسوية وتطويرها أسهم في "زيادة الإنتاج المحلي وتوفير بعض المواد الغذائية بأسعار معقولة، وهو ما خفف من معدلات انعدام الأمن الغذائي في غزة ورفع دخل الأسر المستفيدة".
ويرى الأنقح أن الطريق لم يكن ممهدا، فقد واجه المشروع عقبات عديدة أبرزها ارتفاع أسعار المواد الخام وعدم توفر المعدات المناسبة، إلى جانب انقطاع مصادر الطاقة وارتفاع التكاليف التشغيلية بشكل غير مسبوق، وتضرُر العديد من الوحدات بفعل الحرب والنزوح، ما أجبر بعض النساء على ترك أعمالهن، إضافة إلى الضغوط النفسية والاجتماعية التي أثرت في استمرارية بعضهن.
ورغم هذه التحديات، نجح المشروع في خلق تحول ملموس في حياة كثير من النساء كما يقول الأنقح، مضيفا "مجرد توفير مصدر دخل ثابت ساعد الأسر بعض الشيء على مواجهة تكاليف الحياة اليومية في ظل الحرب والحصار، هذا التحسن الاقتصادي انعكس اجتماعيا، فخفف الضغوط داخل الأسرة، وساهم في تحسين الظروف النفسية، وازدياد القدرة على تغطية بعض تكاليف المعيشة ولو بشكل جزئي".
رغم الاعتماد على الدعم الخارجي في تمويل هذه المشاريع، يؤكد الأنقح أن الاتحاد سيواصل الاستثمار في خبراته وتجاربه لتوسيع نطاق المشروع وتعزيز السيادة على الغذاء.
ويضيف "سنعمل على استدامة هذه النماذج الناجحة لأنها تمثل حائط صد أمام الأزمات المتفاقمة" منبها إلى أن المشروع ساعد 12 سيدة على كسر حاجز التبعية، ليكون بمثابة أداة للنجاة الاقتصادية في بيئة تخنقها الحرب والحصار، فيما كانت أريج عرندس من أبرز قصص النجاح في ذلك.
وبين ركام الحرب وأزمات الاقتصاد، تبقى قصص النساء اللواتي أعدن بناء وحداتهن الصغيرة شاهدًا على أن الإرادة الفلسطينية أقوى من الحصار والجوع، وأن الاستثمار في تمكين النساء ليس فقط خياراً تنموياً، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء المجتمع وصموده.