"أرسلت عائلتي إلى الجنوب، لكنني بقيت في غزة لأودع شوارعها وأرثيها. أنا جالس في بيت والدي، أتأمل في معالم المدينة التي لا تزال قائمة. لا أعرف ما الذي سأفعله غدا، هل يدفعني حنيني إلى عائلتي للذهاب جنوبا؟ أم هل أجد الشجاعة للبقاء هنا حتى تختلط عظامي بتراب غزة، ويمتزج لحمي بأرضها؟".
هذه هي الرسالة التي وصلت لعميرة هاس -مراسلة صحيفة هآرتس الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة- من صديقها الفلسطيني، بعد أن طلبت منه مرارا وتكرارا النزوح مع عائلته.
وتبرز هذه الرسالة -وفق التقرير- عمق المأساة التي يعيشها سكان غزة، الذين اضطروا لترك منازلهم في ظل متابعة الاحتلال الإسرائيلي قصفه الجوي والمدفعي بهدف تهجير السكان واحتلال المدينة.
ولا يعد النزوح -على الرغم من صعوبته ومشقته- سبيلا مضمونا للنجاة، فما يسمّيه الجيش الإسرائيلي "إجلاء المدنيين" ليس إلا مسارا محفوفا بالقنابل والموت، حيث تتوالى الغارات والقصف على طوابير العائلات المنكوبة وهي في طريقها إلى جنوب القطاع، حسب التقرير.
واستدلت المراسلة بما نقلته وكالة "وطن" الإخبارية عن استشهاد 5 أشخاص داخل سيارة كانت تقلّ نازحين واستهداف مسجد وتعرض أحياء الشجاعية والتفاح والشيخ رضوان لهجمات متتالية ومتزامنة بهدف طرد السكان.
ولفت التقرير إلى قصة عائلة أخرى اضطرت ابنتهم وأطفالها إلى النزوح، وأوضح أن العملية لم تكن سهلة البتة، إذ استغرق إيجاد سيارة وسائق وأموال كافية وقتا كثيرا عرّضهم للخطر، كما عانت الأم لإقناع ابنها بترك ألعابه وكتبه وراءه.
ووصف التقرير المشهد الخانق على الطريق الساحلي، حيث انطلقت العائلة مع جموع الهاربين جنوبا، وقد خيّم الصمت على الجميع خوفا من أن تصيبهم غارة إسرائيلية في أي لحظة.
وفي شهادة أخرى، نقلت هاس عن شابة من عائلة السمّوني -إحدى العائلات التي ارتكبت إسرائيل مجزرة بحقها في 2009 وفق الجزيرة- قولها إن هذه هي المرة السابعة أو الثامنة التي تُهجّر فيها مع أطفالها الثلاثة.
وذكر التقرير أن هذه الشابة لا تزال تحمل شظايا في رأسها من قصف 2009 وتعاني من دوار وآلام متواصلة، وعلى الرغم من كل الأهوال التي رأتها في حياتها، أكدت للمراسلة في محادثة هاتفية أن "النزوح هذه المرة هو الأصعب على الإطلاق"، ووصفت التجربة بالصعبة أكثر من 20 مرة.
وأكدت هاس أن كل شخص في غزة اليوم -سواء كان نازحا أو مصابا أو يدفن أطفاله أو يبحث عن قطعة أرض خالية لينصب خيمة- هو ناجٍ من قصف وحروب سابقة.
وفي هذا السياق، نقل التقرير مشهدا مؤثرا روته فداء زياد -خريجة الأدب والنقد الأدبي من جامعة الأزهر- عن طفلين غزيين اسمهما فاطمة وحسين، كانا يحرسان متاع عائلتهما في الشارع بعد النزوح.
وسمعت فداء زياد الطفل حسين يقول لأخته "لا تقلقي يا فاطمة، انظري ما أجمل الطقس!"، في محاولة عقيمة لصرف انتباهها عن هدير الطائرات فوق رؤوسهم.
ووثّقت هاس في تقريرها كلمات أحد سكان غزة، عبد الكريم عاشور، الذي كتب على فيسبوك "الكلمات تفقد معناها، ولا يمكنها وصف هول ما يحدث، الصور غير كافية والتقارير محدودة".
وأضاف عاشور "الطريقة الوحيدة لفهم ما نعيشه هو أن تكون هنا وتسمع هدير الطائرات فوق رأسك وترتجف مع كل انفجار وتختنق بالغبار والدخان، عندها فقط ستدرك أن معاناتنا أثقل من أن تصفها الكلمات، هنا غزة، حيث حتى الصمت يصرخ".
وبدورها، أشارت هاس إلى أن الغزيين ذاقوا كل أنواع الخوف في حياتهم تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، لكن في الماضي، ربما كانت هناك كلمات تصف هذا الخوف، أما اليوم، أصبح الخوف أكبر من أن تصفه الكلمات.