في السابع من يوليو/تموز الجاري، وفي أثناء المفاوضات من أجل إبرام اتفاق تبادل ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس خطة لإنشاء "مدينة إنسانية" في رفح بين محوري موراغ وفيلادلفيا. وبدا الإعلان، الذي جاء من دون مقدمات وفي ظروف مفاوضات، وكأنه واحدة من الألاعيب الإسرائيلية للضغط على مفاوضي حماس. ولكن سرعان ما تبدى في المفاوضات مدى إصرار إسرائيل على البقاء في محور موراغ حتى لا تعرقل مشروع إنشاء "المدينة الإنسانية" التي باتت مركز ثقل الرفض الإسرائيلي للتقدم في المفاوضات. وبعد أن كان رفض إنهاء الحرب العائق المركزي أمام إبرام أي صفقة، صار محور موراغ ومن خلفه مشروع "المدينة الإنسانية" العائق، لدرجة أن زعيم المعارضة يائير لبيد سخر من نتنياهو قائلا: "لم نكن نعلم أن محور موراغ بات صخرة وجودنا".
ولا يمكن فهم إعلان كاتس من دون مراجعة بعض معطيات بهتت صورتها مع مرور الوقت. وأول هذه المعطيات خطة تهجير سكان غزة التي أعدتها في حينه، وقبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية غيلا جملئيل، والتي بدأ الجيش الإسرائيلي تنفيذها في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وحينها، طالب الجيش جميع سكان مدينة غزة وشمالها بالتوجه جنوبا إلى ما وراء وادي غزة، الذي غدا محور نتساريم. وحينها تم الإعلان عن خطط لإنشاء مدن خيام للفلسطينيين في سيناء . لكن الرفض المصري والصمود الفلسطيني حالا دون تنفيذ هذه الخطة لذلك تم انتظار اللحظة السانحة بفوز ترامب، الذي أعلن رغبته في تحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا" بعد تهجير سكانه وتسويته بالأرض. وأحيا هذا الإعلان آمال اليمين الإسرائيلي في العودة للاستيطان في غزة وفرض السيادة الإسرائيلية على كل "أرض إسرائيل".
لكن مجريات الأمور لم تحقق لإسرائيل مرادها إذ سرعان ما عاد النازحون إلى شمال القطاع، في مشهد قل نظيره في العالم، ليعيشوا في خيام على خرائب بيوتهم وفي الطرقات، والمهم ألا يرحلوا عن أرضهم. وأسهمت هذه العودة في تبهيت خطة ترامب لتهجير أهل غزة وإنشاء "ريفييرته" على أرضهم، وتراجعت لهجته إلى أن وصلت مؤخرا إلى ما سمعناه في لقائه الأخير مع نتنياهو. لكن حلم اليمين الإسرائيلي في تهجير أهل غزة لم يتراجع ولم يهدأ. وهنا لا بد من الإشارة إلى خطة عملية "مركبات جدعون" وأهدافها. فقد نصت أهداف العملية على ما يلي: هزيمة حماس، والسيطرة على القطاع، ونزع سلاحه، وضرب مقرات حكم حماس، وتجميع السكان ونقلهم، وأخيرا استعادة الأسرى.
ولأن أهداف العملية هذه لم تتحقق، خصوصا "تجميع السكان ونقلهم"، نشبت سجالات وصراعات وتبادل اتهامات بين وزراء اليمين، خصوصا بين وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ورئيس الأركان إيال زامير. وقد اضطر زامير لإعلان أن لعملية عربات جدعون أهدافا تقترب من التحقيق، ليس بينها "تجميع السكان ونقلهم"، وأن الهدف الأول هو إعادة الأسرى وهزيمة حماس. وقد أشار عليه وزراء اليمين بوجوب العودة لقراءة هداف العملية وكيف أنه فشل في تحقيقها. وما لم تشر إليه وسائل الإعلام حينها أن قرار إنشاء "المدينة الإنسانية" اتُخذ وقت إقرار العملية وأخفي تماما عن الأسماع والأنظار.
في يونيو/حزيران 2025، قدّم 3 جنود احتياط التماسا إلى محكمة العدل العليا بشأن تجميع السكان ونقلهم، مدّعين أن هذا أمر غير قانوني، ويتعارض مع القانون الدولي وقيم الجيش الإسرائيلي. ردا على ذلك، أعلن رئيس الأركان بأن تجميع السكان وتعبئتهم في القطاع ليس من بين أهداف العملية، وأن الجيش الإسرائيلي لا يفرض نقل السكان داخل قطاع غزة أو خارجه. وأبرز هذا الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري، خصوصا أن في المستوى القضائي العسكري من يرون أن هذه الخطة ترقى إلى جريمة حرب موصوفة.
حذرت افتتاحية هآرتس في التاسع من يوليو/تموز من "المدينة الإنسانية" قائلة: "شعب الله المختار، الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط بواسطة الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، يعرض الآن المدينة الإنسانية في غزة. لا يهم في أي غلاف لامع ستغلف خطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، فهما يعملان علنا على تجميع السكان في غزة في معسكرات، تمهيدا لترحيلهم إلى خارج قطاع غزة". وأضافت "حقيقة أن كاتس عرض خطة المدينة الإنسانية في رفح -حيث سيجمع مئات آلاف الفلسطينيين تحت إغلاق وتفتيش من دون إمكانية الخروج- بوصفها حلا إنسانيا، ليست إلا تشويها تقشعر له الأبدان للغة. لشدة الرعب، هذه الخطة الشوهاء يعمل عليها نتنياهو في واشنطن ، حيث شرح -في ظل استخفاف بذكاء كل العالم- بأن فكرة ترامب تسمى خيارا حرا. من يريد أن يبقى يمكنه ذلك. لكن من يريد أن يغادر، فينبغي السماح له أيضا". وأضاف رئيس الوزراء -بلا ذرة خجل- "أن هذا ليس سجنا، ينبغي لهذا أن يكون مكانا مفتوحا".
وفي اليوم التالي، كتبت هآرتس في مقارنة مع النازية من دون ذكرها: "في إسرائيل محظورة المقارنة، وعند المقارنة بعهود ظلماء، فإن أحدا ما دوما يضيع في الترجمة. فما دام معسكر الاعتقال لم يكن محطة انتقالية في الطريق إلى أفران الغاز، فإنه سهل دحض المقارنة، وبذلك تسويغ كل ظلم تقريبا أيضا. طالما لا يدور الحديث عن محرقة، كل شيء على ما يرام. وهكذا تصبح المقارنة التاريخية، التي تستهدف التحذير، لتكون أداة إسكات للنقد وتطبيعا للظلم".
وفي اليوم نفسه وفي الصحيفة نفسها، كتب جدعون ليفي: "سمات إبادة الشعوب لا تولد بين عشية وضحاها. لا يستيقظون في الصباح وينتقلون من الدولة الديمقراطية إلى أوشفيتس، من الإدارة المدنية إلى الغستابو. العملية تجري بالتدريج. بعد مرحلة نزع الإنسانية التي مرت على اليهود في ألمانيا، والتي مرت على الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية منذ زمن، ومرحلة الشيطنة التي مرت أيضا على الشعبين، تأتي مرحلة التخويف: قطاع غزة الذي لا يوجد فيه أبرياء، وأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول هو تهديد وجودي للدولة، والذي يمكن أن يتكرر في أي لحظة. عندها تأتي مرحلة الحاجة إلى إجلاء السكان، قبل أن تخطر ببال أي أحد عملية الإبادة".
يُروّج المستوى السياسي والمؤسسة العسكرية لتوفير منطقة في رفح تتسع في مرحلة أولى لـ600 ألف فلسطيني. ووفقا للخطط، سيتم قريبا بناء نقاط تفتيش أمنية حول مدينة رفح ، سيمر عبرها مئات الآلاف من الفلسطينيين. ويقولون إنه في المنطقة المعنية، ستتم عملية توزيع مواد غذائية، وستُنشأ منطقة "خضراء" أكثر أمانا، خالية من الإرهاب. ولكن ضمن خطة أكبر نُشرت، فإنه بالتعاون مع "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي شكلت مصيدة للموت حول مراكزها وتبنتها إدارة ترامب، يجري الحديث عن معسكر اعتقال واسع في رفح ومعسكرات تجميع في دول أخرى، وبهدف واضح وهو تهجير الفلسطينيين.
وبصرف النظر عن الخلافات، فإن الأمر جرى ترتيبه وتسويقه في أعلى المحافل في إسرائيل بعلم ومعرفة كل الجهات، وعلى رأسها نتنياهو شخصيا. وفي العاشر من يوليو/تموز، كشفت صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية عن نوع الخلاف بين الجيش الإسرائيلي ووزارة المالية بشأن هذا الأمر. وأشارت إلى أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يرعى إنشاء "المدينة الإنسانية" يصارع مع الجيش حول تكاليف إنشائها. وفي حين تحدثت تقارير عن خلاف كبير بين وزارتي الدفاع والمالية بشأن تغطية تكاليف الحرب، إذ طلب الجيش زيادة بقيمة 60 مليار شيكل (17 مليار دولار) علمت كالكاليست أن الوزارتين توصلتا إلى حل وسط. ولكن سرعان ما تبين أن الاتفاق لا يشمل تكاليف إنشاء "المدينة الإنسانية"، إذ إن الجيش يقدر تكلفة الإنشاء الأولية بـ10 مليارات شيكل يريد أن تدفعها وزارة المالية خارج ميزانية الدفاع. وهذه التكلفة لا تشمل تكاليف تشغيل هذه "المدينة"، التي تحتاج إلى 10 مليارات شيكل أخرى.
ولكن من لهفة سموتريتش على إنشاء هذه المدينة، سارع للقبول بدفع المبلغ، معتبرا أن هذه التكلفة أقل من تكلفة إنشاء خط بارليف الذي سقط في حرب أكتوبر /تشرين الأول 1973، وهي أكثر أهمية منه. وحسب كالكاليست، وافق سموتريتش على دفع أي مبلغ لتحقيق رؤيته، وطرح سؤالا بسيطا: "كم تريد؟" قدّر الجيش الإسرائيلي أن تكلفة البناء وحدها يمكن أن تزيد على 10 مليارات شيكل، مع تأكيد أن هذا المبلغ لا يشمل تشغيل المنشأة. ويرى الخبراء أن التكلفة الفعلية ستعتمد على نوعية خدمة التي تريد إسرائيل تقديمها في هذه المدينة. فإن كانت فقط للغذاء فهذا أمر، وإن كانت غذاء وصحة وتعليم فهذا شأن آخر. وكان سموتريتش دفع من دون نقاش مبلغ 700 مليون شيكل (أكثر من 200 مليون دولار) لتغطية نفقات "مؤسسة غزة الإنسانية" ما دامت تحقق له الهدف الإنساني بهندسة الجوع والفوضى وتقريب فكرة تهجير غزة.
ليس صدفة إصرار حماس على تفكيك محور موراغ في مفاوضات التبادل ووقف النار. وفي إسرائيل هناك أغلبية واسعة تصل إلى 70% من الإسرائيليين تؤيد التبادل ووقف النار مقابل إنهاء الحرب وعودة الأسرى والانسحاب من القطاع. وقد باتت فكرة تفكيك محور موراغ هدما لفكرة "المدينة الإنسانية" التي تخيل اليمين الإسرائيلي أنها يمكن أن تشكل "مسمار جحا"، الذي يمنع إنهاء الحرب ويبقي فكرة التهجير والعودة لاستيطان غزة فكرة حية. وعندما كان نتنياهو يتحدث عن "لا حماستان ولا فتحستان في غزة"، كان فعليا يقول إنه لا يريد فلسطينيين في غزة من الأساس. وما اختيار "زعامات" أمثال تجار المخدرات والعملاء "للتفاهم" معهم حول اليوم التالي إلا مجرد تذكير بما يطمح إليه نتنياهو واليمين عموما. فمحور موراغ الموسع أو المقلص يهدف لحماية فكرة "المدينة الإنسانية" بوابة التهجير وصيانة "عصابة أبو شباب" الطامحة للعب دور في المخطط الصهيوني المرسوم.
وحاليا يسوّق نتنياهو وكاتس وسموتريتش وهمًا جديدا تحت شعار "المدينة الإنسانية". قد ينجحون جزئيا في ذلك مع إدارة ترامب، ولكنهم خسروا اللعبة تماما مع أغلبية العالم، وبالتأكيد خسروها -أولا وقبل كل شيء- مع الفلسطينيين. وهذا سبب إصرار الفلسطينيين في غزة، رغم القتل والتدمير على البقاء في العراء، وعدم اللجوء إلى مدينة تفتقر للإنسانية حتى لو سميت بذلك، فإنها -وتحت الضغط والإرهاب والتجويع – بوابة للتهجير القسري حتى لو اعتبره نتنياهو وترامب "هجرة طوعية".