آخر الأخبار

حزب الله وإسرائيل: تحقيق لبي بي سي يكشف حقائق حول الهجوم الإسرائيلي الأكثر دموية منذ عقدين في لبنان

شارك الخبر
مصدر الصورة

كانت جوليا رمضان تشعر بالرعب، في وقتٍ تصاعدت فيه وتيرة الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وكان يراودها كابوس بأن منزل عائلتها يتعرض للقصف، وعندما أرسلت لأخيها أشرف رسالة صوتية من شقتها في بيروت، الذي شجعها على الانضمام إليه في عين الدلب، وهي قرية هادئة جنوب لبنان.

"المكان آمن هنا"، طمأنها، وقال لها "تعالي ابقي معنا حتى تهدأ الأمور".

وفي وقت سابق من ذلك الشهر، كثفت إسرائيل حملاتها الجوية ضد حزب الله في لبنان، رداً على الهجمات الصاروخية المتصاعدة من قبل الحزب المدعوم من إيران والتي قتل خلالها مدنيين، ونزح على إثرها عشرات الآلاف من منازلهم شمال إسرائيل.


* ما هي استراتيجية إسرائيل في استهداف الشبكة المدنية لحزب الله؟
* إسرائيل ترتكب "مجزرة مروعة" في بيروت بعد أربع غارات على الضاحية الجنوبية

أشرف كان واثقاً من أن مبنى شقق عائلته سيكون ملاذاً آمناً، لذلك انضمت إليه جوليا، ولكن في اليوم التالي، وبالتحديد في 29 سبتمبر/أيلول، تعرض المبنى لأشد هجوم إسرائيلي دموي في هذا الصراع، حيث ضربته صواريخ إسرائيلية، وانهار المبنى المكون من ستة طوابق بالكامل، مما أسفر عن مقتل 73 شخصاً.

ويقول الجيش الإسرائيلي إن المبنى استُهدف لأنه كان "مركز قيادة إرهابي" لحزب الله، وإنه "قضى" على أحد قادة حزب الله، مضيفاً أن "الأغلبية الساحقة" من القتلى في تلك الضربة كانوا "عناصر إرهابية".

لكن تحقيقاً أجراه فريق بي بي سي لتقصي الحقائق، أكد هوية 68 شخصاً من أصل 73 قُتلوا في الهجوم، وكشف عن أدلة تشير إلى أن ستة فقط كانوا مرتبطين بالجناح العسكري لحزب الله، ولم يكن أي من هؤلاء الستة يحمل رتبة عسكرية كبيرة. كما وجدت بي بي سي أن الاثنين والستين الآخرين كانوا مدنيين، و23 منهم أطفال.

ومن بين أولئك الأطفال القتلى من لم يتجاوز بضعة أشهر، مثل نوح قبيسي في الشقة 2 ب، وفي الشقة 1 ج، قُتلت المعلمة عبير حلاق إلى جانب زوجها وثلاثة من أبنائها، وفي الطابق الثالث، توفيت أمل الحكواتي إلى جانب ثلاثة أجيال من عائلتها؛ زوجها وأبناءها وحفيدتان.

مصدر الصورة

كان أشرف وجوليا قريبين من بعضهما البعض دائماً، ويتشاركان كل شيء مع بعضهما، ويصف أشرف شقيقته بأنها "مثل الصندوق الأسود، الذي يحمل كل أسراره".

وفي فترة ما بعد الظهر من يوم 29 سبتمبر/أيلول، عاد الشقيقان إلى المنزل بعد مشاركتهما في توزيع الطعام على الأسر التي فرت من القتال، حيث نزح مئات الآلاف من الناس في لبنان بسبب الحرب.

أشرف كان يستحم، وجوليا تجلس في غرفة المعيشة مع والدهما، تساعده في تحميل مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت والدتهما جنان تنظف المطبخ.

ثمّ دون سابق إنذار، سمعوا دوياً يصم الآذان، واهتز المبنى بأكمله، وتدفقت سحابة ضخمة من الغبار والدخان إلى شقتهما.

يقول أشرف: "صرخت منادياً، جوليا! جوليا!"، وأجابت "أنا هنا".

ويكمل: "نظرت إلى والدي، الذي كان يكافح للنهوض من على الأريكة بسبب إصابة في ساقه، ورأيت والدتي تركض نحو الباب الأمامي".

مصدر الصورة

كان الكابوس الذي أرّق جوليا، يتحقق في الواقع.

ويضيف: "كانت جوليا تتنفس بصعوبة شديدة، وتبكي بشدة على الأريكة، كنت أحاول تهدئتها وأخبرتها أننا بحاجة إلى الخروج، ثم حدث هجوم آخر".

ويُظهر مقطع فيديو للضربة، تم تداوله عبر الإنترنت وتم التحقق منه من قبل بي بي سي، أربعة صواريخ إسرائيلية تتجه نحو المبنى، وبعد ثوانٍ، انهار المبنى.


* بي بي سي تزور نازحين داخل فندق تحوّل لملجأ لهم في جنوب لبنان

كان أشرف، مع كثيرين آخرين، محاصرين تحت الأنقاض، بدأ ينادي، لكن الصوت الوحيد الذي كان يسمعه، كان صوت والده، الذي أخبره أنه لا يزال يسمع جوليا وأنها على قيد الحياة، ولم يستطع أي منهما سماع صوت والدة أشرف.

أرسل أشرف رسالة صوتية إلى الأصدقاء في الحي لتنبيههم، وكانت الساعات القليلة التالية مؤلمة، إذ كان يسمع رجال الإنقاذ وهم يزيلون الأنقاض، ونحيب السكان الذين اكتشفوا موت أحبائهم، ويقول أشرف: "كنت أدعوا: أرجوك يا الله، ليس جوليا، لا أستطيع أن أعيش هذه الحياة دون جوليا".

تم انتشال أشرف أخيراً من تحت الأنقاض بعد ساعات، مصاباً بجروح طفيفة فقط.

واكتشف أن والدته تم إنقاذها لكنها توفيت في المستشفى، أما جوليا فقد اختنقت تحت الأنقاض، وأخبره والده لاحقاً أن آخر كلمات جوليا كانت نداءات لأخيها.

مصدر الصورة

وفي نوفمبر/تشرين الثاني، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله بهدف إنهاء الصراع، ويمنح الاتفاق مهلة 60 يوماً للقوات الإسرائيلية للانسحاب من جنوب لبنان ولحزب الله لسحب قواته وأسلحته شمال نهر الليطاني.

ومع اقتراب موعد انتهاء مدة الستين يوماً في 26 يناير/كانون الثاني، سعى فريق بي بي سي لتقصي الحقائق إلى معرفة المزيد عن أعنف هجوم إسرائيلي على لبنان منذ سنوات.

في الشقة الواقعة أسفل منزل جوليا وأشرف، كانت حوراء وعلي فارس يستضيفان أفراداً من عائلتهم نزحوا بسبب الحرب، من بينهم شقيقة حوراء بتول، التي وصلت - مثل جوليا - في اليوم السابق مع زوجها وطفلين صغيرين، بعد أن فروا من القصف المكثف بالقرب من الحدود اللبنانية الإسرائيلية في المناطق التي يتمتع فيها حزب الله بحضور قوي.

قُتل زوج بتول محمد فارس في هجوم عين الدلب، وسقط عمود على بتول وطفلتيها، وتقول إنه لم يستجب أحد لنداءاتها طلباً للمساعدة، وتمكنت أخيراً من رفع العمود بمفردها، لكن ابنتها حوراء البالغة من العمر أربع سنوات دُهست تحت العمود حتى الموت، وبمعجزة نجت طفلتها الأخرى ملاك.


* ماذا نعرف عن بنود الاتفاق بين حزب الله وإسرائيل؟
* بعد بدء سريانه: هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله؟
مصدر الصورة

وفي الطابق الثالث، تحت منزل بتول كانت تعيش دينيس ومحي الدين البابا.

في ذلك الأحد، دعت دينيس شقيقها هشام لتناول الغداء، "كان تأثير الضربة وحشياً" كما يقول هشام.

ويضيف: "أسقطني الصاروخ الثاني على الأرض، وانهار الجدار بأكمله فوقي"، وأمضى سبع ساعات تحت الأنقاض.

ويقول هشام: "سمعت صوتاً بعيداً، أشخاص يتحدثون، صراخ، وأحدهم يقول ..غطوها، أخرجوها، ارفعوا الحجارة، مازال على قيد الحياة، إنه طفل، ارفعوا هذا الطفل".

ويكمل هشام: "أعني يا الله، فكرت في نفسي، أنا آخر شخص تحت الأرض، لن يعرف أحد أني موجود، سأموت هنا".

وعندما تم إنقاذ هشام أخيراً، وجد خطيب ابنة أخته ينتظر أن يسمع ما إذا كانت على قيد الحياة، كذب عليه في البداية وأخبره أنها بخير، إلّا أنهم وجدوا جثتها بعد ثلاثة أيام.

وفقد هشام أربعة من أفراد عائلته، أخته وصهره وطفليهما، وأخبرنا أنه فقد إيمانه بعد كل ذلك.


* إسرائيل وحزب الله يقولان إنهما لا يريدان الحرب لكنهما مستعدان لها

وللتعرف على المزيد عن القتلى، قمنا بتحليل بيانات وزارة الصحة اللبنانية، ومقاطع الفيديو، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن التحدث إلى الناجين من الهجوم.

وأردنا بشكل خاص، التحقق من رد الجيش الإسرائيلي على وسائل الإعلام - مباشرة بعد وقوع الهجوم - بأن المبنى السكني كان مركز قيادة لحزب الله، وسألنا الجيش الإسرائيلي عدة مرات عن ماهية مركز القيادة الذي تحدّث عنه، لكنه لم يقدم توضيحاً.

وبدأنا بالتحقق من التعازي على وسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع القبور، وسجلات الصحة العامة، ومقاطع فيديو الجنازات لتحديد ما إذا كان أي من القتلى في الهجوم لديه أي انتماء عسكري لحزب الله.

وتمكنّا من العثور على أدلة تشير إلى أن ستة فقط من 68 قتيلاً تم التعرف عليهم، كانوا مرتبطين بالجناح العسكري لحزب الله.

واستخدم حزب الله تسمية "مجاهد" على الصور التي نشرها للرجال الستة، وعلى النقيض من ذلك، عادة ما يشير الحزب إلى كبار الشخصيات باسم "قائد"، وهي تسميات لم يستخدمها الحزب لوصف القتلى في ذلك الهجوم.

وسألنا الجيش الإسرائيلي عما إذا كان مقاتلو حزب الله الستة الذين حددنا هويتهم هم الأهداف المقصودة من الضربة، لكن لم يرد على هذا السؤال.

كان أحد مقاتلي حزب الله الذين تعرفنا عليهم هو محمد فارس، زوج بتول التي أخبرتنا أنه كان - مثل العديد من الرجال الآخرين في جنوب لبنان - جندياً احتياطياً في الحزب، رغم أنها أضافت أنه لم يتقاضى أجراً من حزب الله أبداً، ولم يحمل رتبة رسمية، ولم يشارك في القتال.

وتنظر إسرائيل إلى حزب الله باعتباره أحد التهديدات الرئيسة لها، وقد صنّفت إسرائيل والعديد من الحكومات الغربية ودول الخليج العربية الحزب كمنظمة إرهابية.

ولكن إلى جانب جناحه العسكري الضخم والمسلح جيداً، فإن حزب الله هو أيضاً حزب سياسي مؤثر، ويشغل مقاعد في البرلمان اللبناني، وفي العديد من أجزاء البلاد، أصبح حزب الله جزءاً من النسيج الاجتماعي، ويوفر شبكة من الخدمات الاجتماعية.

ورداً على تحقيقنا، قال الجيش الإسرائيلي إن "ضرباته على الأهداف العسكرية تخضع لأحكام القانون الدولي ذات الصلة، بما في ذلك اتخاذ الاحتياطات الممكنة، ويتم تنفيذها بعد تقييم الأضرار الجانبية المتوقعة، وأن الخسائر المدنية لن تكون مفرطة مقارنة بالنجاح العسكري المتوقع من الضربة".

كما صرح الجيش الإسرائيلي في وقت سابق لبي بي سي، أنه نفّذ "إجراءات الإخلاء" قبل الضربة على عين الدلب، لكن كل من تحدثنا إليهم قالوا إنهم لم يتلقوا أي تحذير.

وأعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم بشأن الهجمات الجوية الإسرائيلية على المباني السكنية في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في لبنان.

وكان هذا النمط باستهداف المباني بأكملها - مما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين - سمة متكررة في أحدث صراع بين إسرائيل وحزب الله، والذي بدأ عندما صعد الحزب هجماته الصاروخية رداً على حرب إسرائيل في غزة.

وبين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ونوفمبر/تشرين الثاني 2024، تقول السلطات اللبنانية إن أكثر من 3960 شخصاً قُتلوا في لبنان على يد القوات الإسرائيلية، وكثير منهم من المدنيين.

وعلى مدى الفترة الزمنية نفسها، تقول السلطات الإسرائيلية إن 47 مدنياً على الأقل قتلوا بصواريخ حزب الله التي أطلقت من جنوب لبنان، كما قُتل ما لا يقل عن 80 جندياً إسرائيلياً أثناء القتال في جنوب لبنان أو نتيجة لهجمات صاروخية على شمال إسرائيل.

ويعد الهجوم على عين الدلب، الهجوم الإسرائيلي الأكثر دموية على مبنى في لبنان منذ 18 عاماً على الأقل.


* تحقيق لبي بي سي يكشف حجم الأضرار على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية: أكثر من 3200 مبنى تضرر في لبنان

وتبقى آثار القصف بارزة في القرية، فعندما زرناها بعد أكثر من شهر من القصف، كان أحد الآباء يتردد على الموقع بشكل يومي، على أمل الحصول على أخبار عن ابنه البالغ من العمر 11 عاماً، والذي لم يتم العثور على جثته بعد.

ويعود أشرف رمضان إلى المكان أيضاً للتنقيب بين الأنقاض، بحثاً عن ما تبقى من الذكريات التي بنتها عائلته على مدار العقدين اللذين عاشا فيهما هناك.

ويُريني أشرف باب خزانة ملابسه، الذي لا يزال مزيناً بصور لاعبي كرة القدم ونجوم البوب الذين يحبهم، ثم يسحب دمية دب من بين الأنقاض ويخبرني أنها كانت دائماً على سريره.

ويقول: "لا شيء أجده هنا سيعوضنا عن الأشخاص الذين فقدناهم".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا