يدخل لبنان عامه السادس من عمر أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ومنقطعة النظير، تُوجت صيف العام الماضي 2024، بانفجار حرب إسرائيلية على لبنان طالت أراضيه كافة، وذلك بعد عام من حرب إسناد قررها حزب الله في الثامن من أكتوبر من العام 2023، وما بين الإسناد وحرب الـ66 يومًا، خسائر بالأرواح ودمار في الوحدات السكنية والمؤسسات وتعطيل للاقتصاد فيما لا يزال البحث جاريا عمّن يعيد إعمار ما هدمته الحرب.
بنى حزب الله نظامه الاقتصادي والمالي في دولة داخل الدولة، حيث الرواتب والأجور تتراوح ما بين 20 و30 مليون دولار، إضافة إلى المؤسسات الطبية والعلاجية والسوبرماركت، حتى الصراف الآلي توافر لدى فروع القرض الحسن.
اقتصاد الحزب الموازي لم يتغذَّ فقط من إيران بل أيضًا من الدولة اللبنانية ومؤسساتها، ومن التهرب الضريبي والجمركي عبر الهيمنة التي كانت مفروضة على مرفأ بيروت ومطارها وصولًا إلى المعابر غير الشرعية. أي أنه يشكل جزءًا من المستفيدين من عملية الفساد التي هيمنت على مفاصل الحكم في البلاد.
ومع اندلاع الأزمة في العام 2019، وحجب المصارف أموال المودعين، وانطلاق عملية الدعم بقرار من حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة والحكومة مجتمعة، حيث أنفق ما يقرب من 22 مليار دولار بين دعم المواد الغذائية والمحروقات وضخ الدولارات لدى الصيارفة للجم تفلت سعر الصرف، كان حزب الله يستفيد كأقرانه من هذه الأموال، حتى إن النظام السوري المخلوع تنفذ من خلال الاقتصاد اللبناني، فعقوبات قانون قيصر كانت تضغط باتجاه تهريب العملة الصعبة والمواد الغذائية والمحروقات إلى سوريا.
وبحسب حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة فإن ما بين 400 و600 مليون دولار من أموال العملة الصعبة التي أُنفقت على الدعم كانت تذهب شهريا إلى سوريا.
واليوم يبحث لبنان عمّن يسانده في إعادة إعمار ما تهدم، فتكلفة الحرب بحسب المعنيين تفوق ما تكبدته حرب يوليو/تموز بنحو عشرة أضعاف، وحتى اللحظة لا يوجد رقم رسمي لكلفة الإعمار. ففي حديث مع الإعلاميين قدر وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل كلفة الأضرار والخسائر بنحو 5 مليارات دولار، بينما قدر البنك الدولي كلفة الدمار الذي طال حسب تقديراته 100 ألف وحدة سكنية بشكل كلي أو جزئي بـ3.4 مليار دولار.
ومع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية بوصفه دولة تعاني قصورًا في ما هو مطلوب منها لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فإن عليها أن تحسب أي خطوة أو قرار على علاقة بإدخال الأموال إلى لبنان، لا سيّما أن مصير لبنان بالبقاء على خريطة النظام المالي العالمي هو تحت عدسة المجهر الدولي، ووحده المصرف المركزي بإدارته الجديدة المتمثلة بالحاكم بالإنابة وسيم منصوري ونوابه هم من حظُوا بثقة المؤسسات المالية الدولية ووزارة الخزانة الأميركية والدول العربية، نتيجة لأدائهم القائم على اتباع أعلى معايير العمل المؤسساتي والالتزام الكامل بالمعايير المحاسبية الدولية لتنظيم العمل المصرفي وتأطيره، مع كل ما هو مطلوب منه من مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومنع دخول أي من الأفراد أو المنظمات المدرجين على اللائحة السوداء الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية "أوفاك".
والحديث اليوم عن أن إيران، المدرجة على اللائحة السوداء بصفتها دولة متهمة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، سترسل أموالًا إلى لبنان، سيعرّض الأخير إلى زعزعة ما عمل عليه المصرف المركزي بإدارته الجديدة طيلة 16 شهرًا من العمل المتواصل، لتجنيب تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، والتي تتمثل غالبًا بقطع علاقات المصارف المراسلة مع مصارف الدولة التي تصنف على أي من اللائحتين الرمادية والسوداء. بينما تمكنت الإدارة الجديدة للمصرف المركزي من زيادة عدد المصارف المراسلة التي تتعامل مع المصارف اللبنانية من مصرفين إلى 6 مصارف مراسلة.
أدت الأزمة في لبنان إلى تفشي الاقتصاد النقدي، أو ما يعرف بـ"الكاش إيكونومي"، فبحسب البنك الدولي يصل حجم "الكاش إيكونومي" إلى 10 مليارات دولار، بينما من المتوقع، بحسب المعنيين بالشأن الاقتصادي، أن يتقلص الناتج المحلي في لبنان إلى 16 مليار دولار نتيجة الحرب الأخيرة، ما يعني أنه يحتل نسبة 62.5% من إجمالي الاقتصاد الشرعي. غير أنّه، على أرض الواقع، لا يمكن رصد حجم الاقتصاد النقدي الدائر في البلاد حاليًّا، لا سيما أن حزب الله وغيره من التنظيمات المسلحة كحماس وغيرها، تستفيد من هذا الوضع لتأمين حركة أموالها دخولًا وخروجًا دون حسيب ولا رقيب.
إلا أن المصرف المركزي سعى إلى حماية النظام المصرفي في لبنان من دخول أي أموال مشبوهة تحيطها علامات استفهام. إذ التزم مصرف لبنان المركزي بجميع الملاحظات والمعايير التي وضعتها مجموعة العمل المالي "فاتف"، وعمل على إصدار التعاميم، وتطوير ما هو موجود ليحاكي المطلوب بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وآخر التعاميم التي أصدرها هو التعميم الوسيط رقم 692 والذي يتعلق بإنشاء مصلحتين على الأقل ضمن وحدة التحقق، للإشراف على المركز الرئيسي وفروع المصارف.
وتشمل مهام هاتين المصلحتين التأكد من تطبيق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحة الفساد. ومع اعتماده سياسة التشدد النقدي، حيث أصبح المصرف المركزي، ووفقًا للمهام المتوجبة على المصارف المركزية، هو المتحكم بالكتلة النقدية بالعملة المحلية. هذه السياسة المتبعة من قبله لم تؤدِّ فقط إلى الحفاظ على استقرار سعر الصرف حاليًّا عند حدود 89500 ليرة، وإلى رده أموال المودعين عبر التعاميم الصادرة عنه بقرابة 3.4 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وإلى تأمين ما يفوق 340 مليون دولار شهريًّا من رواتب وأجور وأموال مودعين على مدى عام، وإلى زيادة الاحتياطي بالنقد الأجنبي إلى ما يفوق 2 مليار دولار، وإنما أدى أيضًا إلى تطبيق جميع معايير الرقابة المتعلقة في مكافحة آفة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ويتعاون مصرف لبنان حاليًّا مع بعض المصارف التجارية في لبنان التي تعمل على بيع النقد الوطني مقابل الدولار، لكل من الأفراد والمؤسسات الذين يستخدمون الليرة اللبنانية لتسديد الضرائب والرسوم فضلًا عن بعض المصاريف النثرية التي تدفع بالليرة اللبنانية في السوق ويستخدمها المواطنون اللبنانيون. أهمية العملية المذكورة أعلاه تكمن في أن حركة الأموال تعلمها المصارف والمصرف المركزي، من المستفيد الأول حتى المستفيد الأخير، ما يعني أن الأموال الدولارية التي دخلت إلى المركزي هي أموال نظيفة لأنها خضعت لعملية التدقيق المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. فالمصرف الذي يقوم بعملية بيع الليرة اللبنانية إلى شركات ومؤسسات مرخصة وشرعية، يكون على علم واطلاع على قنوات توزيع هذه الأموال من خلال عملية البيع والتتبع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقوم المصرف بجمع الوثائق التي لها علاقة بهوية المؤسسة أو الشركة أو الفرد، إضافة إلى السجلات التجارية وشهادات التأسيس، ثم يبدأ العمل على التحقق من صحة المستندات للتأكد من شرعية الشركة والتزامها بالأنظمة، كما يتحقق المصرف من أن الشركات أو الأفراد غير مدرجين على أي من اللوائح التي تصنف الأفراد أو الشركات على أنهم متهمون بغسل الأموال وتمويل الإرهاب سواء محليًّا أم دوليًّا.
كل ما تقدم يقود إلى أمر واحد وهو استحالة دخول أموال إيران أو أي دولة مصنفة بأنها مرتع لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إلى لبنان، وإلا فإن هذا الأمر سيؤدي إلى إدراج لبنان على اللائحة السوداء وخسارته كل المعركة القانونية والدبلوماسية التي خاضها على مدى 16 شهرًا، حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري للحفاظ على مكانة لبنان على النظام المالي العالمي.
وبعتبر رفض الحكومة اللبناية للأموال الإيرانية في مكانه، إلا إذا جرى ذلك عبر الآليات القانونية الدولية المتمثلة بمطالبة الحكومة اللبنانية للبنك الدولي بإنشاء صندوق يشرف عليه البنك لتلقي أموال إعادة الإعمار. فمثل هذه الطريقة ستضمن حدًّا أعلى من الشفافية في عملية الإنفاق على تلزيمات إعادة الإعمار. كذلك فإن إيران، وفي حال أرسلت أموالًا كما تقول في الإعلام، وكانت الطريقة شرعية، فهي ستكون قد حصلت على ما يُعرف بالاستثناء من قبل الإدارة الأميركية التي فرضت العقوبات عليها، عندها تجنب لبنان أي تداعيات سلبية.