شهدت صناعة السياحة العالمية عودة قوية بعد جائحة كوفيد 19 مع ارتفاع أعداد المسافرين واقترابها من مستويات ما قبل عام 2020، لكن التحديات المناخية والاقتصادية المتزايدة دفعت باحثاً بارزاً إلى التحذير من دخول مرحلة جديدة قد تغيّر شكل السياحة كما نعرفها. فموجات الحر والحرائق والجفاف ، إلى جانب الارتفاع المستمر في تكاليف السفر والغذاء والتأمين، تثير مخاوف متصاعدة بشأن مستقبل العطلات في الخارج.
على المنصة الرئيسية لأكبر معرض سياحي في العالم، أعلن ستيفان غوسلينغ، الباحث البارز في مجال النقل المستدام وأستاذ الاقتصاد في جامعة لينيوس بالسويد، أن العالم قد دخل بالفعل "بداية عصر ما بعد السياحة". وجاء تصريحه أمام جمهور ضم وكالات سفر وشركات تأجير سيارات ومشغلي الرحلات البحرية وأصحاب فنادق، ما أثار قلق الحاضرين حول مستقبل صناعتهم.
وفي حين قد يبدو هذا الطرح متناقضاً مع واقع الصيف الحالي في أوروبا وأميركا الشمالية حيث تتواصل الرحلات بكثافة، لكن غوسلينغ يحذر من أن التلوث الكربوني وما يسببه من كوارث مناخية سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى ارتفاع كبير في تكاليف السفر، وهو ما سيجعل العطلات في الخارج رفاهية يصعب على كثيرين تحمّلها.
تظهر المؤشرات بوضوح في عدد من الوجهات، فالطقس الدافئ يذيب الثلوج التي تعول عليها م نتجعات التزلج في جبال الألب ، والتآكل الساحلي يلتهم شواطئ جنوب أوروبا، فيما يعاني قطاع الضيافة في إسبانيا من الجفاف الذي يجبر الفنادق على استيراد المياه العذبة بينما تبقى المسابح فارغة. أما في اليونان، فقد تحولت جزر سياحية إلى مسرح لحرائق متكررة.
وبحسب دراسة شارك غوسلينغ في إعدادها الشهر الماضي، تعد جزر جنوب بحر إيجه – مثل رودس وكوس وميكونوس – الأكثر عرضة للخطر في القارة الأوروبية، تليها جزر أيونيا مثل كورفو.
ومع تصاعد هذه التحديات، تتوقع الشركات السياحية أن تنتقل الأعباء المالية إلى الزوار، سواء عبر ارتفاع أسعار الرحلات أو من خلال زيادة تكاليف الغذاء – من القهوة إلى الشوكولاتة وزيت الزيتون – فضلاً عن الحاجة المتزايدة إلى التأمين ضد الكوارث المناخية.
يرى غوسلينغ أن هذه الأزمات قد تتحول مستقبلاً إلى عنصر معرقل للنشاط السياحي العالمي . وقال: "حتى الآن، التأثيرات محلية ومحدودة، لكن في المستقبل ستصبح أكثر تكراراً وتشمل مساحات أوسع وتتحول إلى عامل معطل فعلي".
ورغم أن التكيف ممكن لتقليل الخسائر، إلا أنه يتطلب استثمارات ضخمة قد ترفع التكاليف أكثر. كما أن أي خفض حاد في انبعاثات الكربون وهو ضروري لوقف الاحترار العالمي، سيضرب قطاعات مثل الطيران التي تعاني من قيود تقنية تحول دون تقليل بصمتها الكربونية بسرعة.
وتخطط بعض الحكومات لفرض ضرائب كربونية على الرحلات الجوية لتمويل التحول إلى الطاقة النظيفة وتعويض الدول الفقيرة عن الأضرار المناخية. كما تدفع منظمات بيئية باتجاه "ضريبة المسافر الدائم" التي تزيد مع كل رحلة إضافية في العام.
لم يوفر غوسلينغ انتقاداته للقطاع، إذ وصف مجمل جهود السياحة في التعامل مع أزمة المناخ بأنها مجرد "غسل أخضر" وهو(مصطلح يُستخدم لانتقاد الشركات أو القطاعات التي تُظهر نفسها صديقة للبيئة في الإعلام والدعاية، لكنها في الواقع لا تقوم بإجراءات حقيقية أو مؤثرة لحماية البيئة). ومع ذلك، يبقى صوته مؤثراً في أوساط الصناعة، حتى أن منظمي معرض برلين الدولي للسياحة وصفوا كلمته بأنها "جلسة لا بد من الاستماع إليها لكل من يهتم بمستقبل السفر وكوكب الأرض".
وأشار إلى بعض الخطوات الإيجابية مثل لجوء فنادق إلى تركيب الألواح الشمسية على أسطحها، وبدء انتشار الوعي بالمخاطر، لكنه أكد أن الفجوة لا تزال كبيرة بين إدراك المشكلة واتخاذ إجراءات عملية. وأضاف: "الناس باتوا يفهمون أنهم يواجهون مخاطر حقيقية ويريدون استيعاب انعكاساتها على الأعمال. الرسالة غير مريحة، لكنها بالتأكيد تثير التفكير".
يشتهر غوسلينغ في الأوساط الأكاديمية بأبحاثه التي حددت حجم البصمة الكربونية للسياحة (8.8% من الانبعاثات العالمية) وكشفت التفاوت الكبير في الطيران، حيث لا يسافر إلى الخارج سوى 2 إلى 4% من سكان العالم سنوياً. وأظهرت أبحاثه أيضاً أن 1% من سكان العالم مسؤولون عن نصف الانبعاثات الجوية، ما عزز الدعوات إلى الحد من السفر الفاخر ورحلات رجال الأعمال.
وقال: "لو أن هذه الفئة قلصت رحلاتها إلى النصف – وهو ما يبقى كثيراً – يمكن خفض انبعاثات الطيران بنسبة 25%. فقط بجعل مجموعة صغيرة جداً تسافر أقل قليلاً".
لكن الباحث حذر من أن الطيران لمسافات طويلة يبقى التحدي الأكبر، مشيراً إلى رحلات "سنة الفجوة" التي يقوم بها طلاب وشباب من جيل "زد" والمؤثرون الذين يروجون للسفر كأسلوب حياة.
واختتم قائلاً: "الجميع ينظر إلى السياحة كنظام تتحمل الحكومات والشركات مسؤوليته. لكن الحقيقة أننا نحن النظام. أفعالنا الفردية هي التي تتراكم لتصنع المشكلة العالمية".