في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بروكسل– تستضيف العاصمة الصينية اعتبارا من يوم غد الخميس قمة رفيعة المستوى تجمع الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس مجلس الدولة لي تشيانغ من جهة، ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من الجهة الأخرى، وذلك بمناسبة مرور 50 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد الأوروبي والصين .
لكن هذه القمة تأتي في ظرف بالغ الحساسية، إذ تتفاقم الخلافات التجارية بين الطرفين، على خلفية قضايا السيارات الكهربائية وقيود الواردات الزراعية، إضافة إلى تصاعد التوتر السياسي بسبب دعم الصين لروسيا في حربها مع أوكرانيا .
كما تخيّم على أجواء القمة ظلال الحرب التجارية العالمية التي أعاد إشعالها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية وتهديدات اقتصادية طالت الصين وأوروبا على حد سواء.
ووسط هذا السياق الدولي المضطرب، تُعد قمة بكين فرصة للطرفين لتقييم علاقتهما المتشابكة، والسعي نحو إعادة التوازن فيها، في وقت تتصاعد فيه التساؤلات حول ما إذا كانت أوروبا ستنجرف تدريجيًا نحو بكين في ظل انكفاء واشنطن عن قيادة النظام التجاري العالمي.
ويُنظر إلى القمة على أنها اختبار حاسم لمسار العلاقة بين بروكسل وبكين، وفرصة، وإن كانت محدودة، لنزع فتيل النزاعات التجارية، وإيجاد أرضية مشتركة في ملفات معقدة تشمل المناخ، والسيارات الكهربائية، الأمن الغذائي ، وصفقات الطيران.
على مدى عقود، سعت أوروبا إلى التعامل مع الصين كشريك إستراتيجي رغم الخلافات البنيوية، لكن التصعيد الأخير في ملفات التجارة والأمن ألقى بظلاله على النظرة الأوروبية.
وفي هذا السياق، قال كبير المحللين في مركز السياسات الأوروبية إيفانو دي كارلو -للجزيرة نت- إن الاتحاد الأوروبي يرى الصين كمنافس اقتصادي، وكتهديد للصلابة الاقتصادية الأوروبية كذلك، ومصدرًا رئيسيًا للإحباط بسبب موقف بكين من موسكو .
وأضاف أنه بينما من المرجح أن تواصل بروكسل استخدام التصنيف الثلاثي للصين (شريك ومنافس وخصم نظامي) فإن وصف "الخصم النظامي" يكتسب زخمًا متزايدًا بين الدول الأعضاء، نتيجة الانحياز الجيوسياسي الأوسع للصين مع روسيا.
وأشار إلى أن الهوة تعمقت بعد امتناع بكين عن إدانة حرب روسيا على أوكرانيا، مما أدى إلى "تلاشي إمكانية فصل الاقتصاد عن الجيوسياسة" مضيفا "علاقة الصين بروسيا ما تزال عقبة رئيسية أمام علاقتها مع الاتحاد الأوروبي. ورغم أن بكين تدعي الحياد، فإن دعمها الاقتصادي واللفظي لموسكو قوّض الثقة بها في أوروبا".
على رأس جدول أعمال القمة تقف قضية السيارات الكهربائية الصينية التي أغرقت الأسواق الأوروبية بفضل دعم حكومي، مما دفع المفوضية الأوروبية إلى فرض رسوم تتراوح بين 17% و37.6%، وردّت عليها بكين بفتح تحقيقات في منتجات زراعية أوروبية.
وقال الخبير الاقتصادي الفرنسي كميل ساري للجزيرة نت "الصين تُنتج اليوم أكثر من 30 مليون سيارة سنويًا، منها نحو 10 ملايين سيارة كهربائية، وتصدر جزءًا كبيرًا منها بأسعار مدعومة تقل بكثير عن كلفة الإنتاج الأوروبي. شركات مثل بي واي دي تفوقت عام 2023 على تسلا من حيث المبيعات، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم جمركية، كإجراء مضاد للإغراق".
وأضاف ساري أن الصين ردت بفتح تحقيقات بشأن واردات النبيذ الأوروبي من فرنسا ، وفرضت قيودًا على المنتجات الزراعية الأوروبية، متذرعة بمعايير صحية، لكن بروكسل تراها خطوات انتقامية ذات طابع سياسي.
ومن جانب آخر، تسعى بكين إلى تسريع اعتماد أوروبا لطائرتها المدنية الجديدة "سي 919" (C919) وهو ملف تزامن مع صفقة محتملة لشراء مئات الطائرات من إيرباص ، وقال ساري بهذا الصدد "الاعتراف الأوروبي بطائرة سي 919 يعني فتح الباب لمنافس شرس مدعوم من الدولة الصينية، مما قد يُهدد الريادة الأوروبية في قطاع الطيران على المدى الطويل. لكن الرفض يحمل تكلفة: خسارة صفقة الطائرات وربما تدهور العلاقة الاقتصادية الأوسع".
في خلفية القمة، تلوح تهديدات الرئيس الأميركي بفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على واردات أوروبية، مما أثار قلقًا واسعًا في بروكسل. وفي هذا السياق، قال البروفيسور ريمي بييه أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة ميامي للجزيرة نت "من الصعب دائمًا معرفة ذلك مع ترامب، لأن معظم تهديداته السابقة بفرض رسوم جمركية كانت تُستخدم غالبًا كتكتيكات تفاوضية".
وأضاف "لكن من الواضح أنه أصبح منزعجًا من الانتقادات داخل الولايات المتحدة التي تقول إنه يتراجع دائمًا ولا ينفّذ تهديداته. ولكن رأيت مؤخرًا سلسلة من التهديدات الجمركية التي تحققت فعلًا، سواء في كندا أو المكسيك".
وأوضح بييه أن مفوض التجارة الأوروبي حاول مؤخرًا التفاهم مع مستشاري ترامب من دون تقدم ملموس، مشيرًا إلى أنه "للأسف، يبدو أن تهديد ترامب سيتحوّل إلى واقع من خلال فرض رسوم جمركية على أوروبا".
وبين أن هذا التصعيد "لا يؤثر على التحالف عبر الأطلسي اقتصاديًا فحسب، بل على المستوى السياسي أيضًا" خاصة مع اختلاف أولويات دول الاتحاد الأوروبي. مع العلم أن بولندا ودول أوروبا الشرقية تركز على التهديد الروسي وتقلق من تدهور العلاقة الأمنية مع واشنطن ، بينما ألمانيا وإيطاليا وإيرلندا تضع ملف التجارة في المقدمة.
مع انكفاء واشنطن نحو سياسة حمائية، تتزايد التساؤلات حول ما إذا كانت أوروبا ستتجه نحو بكين كبديل. لكن دي كارلو يرى أن سياسات وخطاب ترامب يدفعون أوروبا إلى إعادة تقييم تموضعها الإستراتيجي، ليس بالضرورة نحو الصين، بل نحو تعزيز الاعتماد على الذات. لكن في الوقت الحالي، تظل الضمانات الأمنية الأميركية والعلاقات في مجال الطاقة عناصر أساسية لأوروبا.
وأضاف أن هذا الواقع "سيحد من أي إعادة تموضع كبيرة" وأن الأرجح هو "التعامل الانتقائي مع الصين وتنويع الشراكات".
أما ساري الذي كان مستشارا سابقا لدى صندوق النقد الدولي ، فأشار إلى أن أوروبا "مكبّلة اقتصاديًا" إذ تستورد اليوم من الولايات المتحدة بما يزيد على 200 مليار دولار من الغاز والنفط سنويًا، أي بما يساوي 3 أو 4 أضعاف ما كان عليه هذا الإنفاق حين كان يستورد من روسيا، مما يجعل أي فك ارتباط نهائي أمرًا بالغ الصعوبة.
طرحت فرنسا مجددًا فكرة "الاستقلال الإستراتيجي" الأوروبي، لكن من دون توافق واضح. وبحسب دي كارلو فإن "ما يسمى الاستقلال الإستراتيجي لا يزال يفتقر إلى العمق التشغيلي الكامل".
ويضيف "الجهود لتحقيقه تسير ببطء وغير متساوية بين الدول الأعضاء. في الوقت الراهن، يظل أقرب إلى وجهة سياسية أكثر من كونه أجندة قابلة للتنفيذ الكامل".
أما بييه، فيرى أن اختبار هذا الطموح سيتوقف على قدرة باريس وبرلين على تشكيل جبهة موحدة، مشيرا إلى 3 حزم أوروبية محتملة للرد على رسوم ترامب كالتالي:
لكنه حذر من غياب التماسك، خصوصًا أن "دول أوروبا الشرقية حذرة جدًا في عدم استفزاز إدارة ترامب".
لا يتوقع أن تسفر قمة بكين عن اختراقات كبرى، بل أقصى ما يُرجى منها، وفق خبراء، هو الحد من التدهور وفتح قنوات للحوار، ويقول دي كارلو "إمكانية حل هذه التوترات على المدى القصير ضئيلة، لأن المشاكل الأساسية ناتجة عن اختلافات هيكلية عميقة بين الاقتصادين".
ويرى البروفيسور الأميركي بييه أنه "إذا فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية أو تبنّت سياسات انتقامية قصيرة المدى حتى ضد حلفائها التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي، فإنها بذلك تخاطر بدفع أوروبا نحو شراكات بديلة قد تشمل الصين.
ويتابع "لقد تسببت إدارة ترامب سابقًا في توترات مع حلفاء مقرّبين، واستعملت أدوات التخويف للحدّ من تقاربهم مع الصين، لكن هذه التكتيكات قد تؤدي إلى نتائج عكسية".
وتبقى أوروبا عالقة بين حليف تقليدي يلوّح بالعقوبات، وشريك اقتصادي صاعد لا تخفي نواياه الجيوسياسية. وبين "التوازن الصعب" و"الاستقلال المؤجل" تمضي القارة العجوز نحو مستقبل لم يُرسم بعد.