في عالم لم تعد تُحسم فيه المعارك بالسلاح وحده، باتت العقوبات الاقتصادية من أخطر أدوات النفوذ الجيوسياسي. وتحديدًا، تبرز العقوبات الثانوية كإحدى أكثر الآليات تأثيرًا، ليس لأنها تستهدف الخصم المباشر فحسب، بل لأنها تمتد أيضًا إلى كل من يتعامل معه. وبهذا، ترسل واشنطن رسالة ضمنية إلى العالم: "من لا يصطفّ معنا، فهو ضدنا".
وفي يوليو/تموز 2025، لوّحت الولايات المتحدة بفرض عقوبات ثانوية على أي جهة تواصل التعاون مع روسيا، في محاولة لعزل موسكو من خلال ضرب شبكاتها التجارية العابرة للحدود.
ومع ذلك، فإن هذه التهديدات لا تمرّ من دون تبعات؛ إذ يرى مراقبون أنها قد تُزعزع الثقة بالنظام الاقتصادي العالمي، وتفتح باب التساؤل حول من يملك الحق في معاقبة من، وتحت أي شرعية دولية.
ولأن لكل حرب كُلفتها، حتى إن كانت حربًا اقتصادية تُخاض عبر البنوك وشبكات التحويل بدلًا من الجيوش، فالسؤال المطروح اليوم: هل يستطيع العالم تحمّل تبعات هذا النهج؟ وهل تملك واشنطن، في ظل دين عام متضخم وصراعات سياسية داخلية، القدرة على تحمّل ارتدادات سلاح قد يُصيبها كما يُصيب خصومها؟
في هذا التقرير، نحاول تقديم رؤية متكاملة لفهم العقوبات الثانوية: ما هي؟ ولماذا تنفرد الولايات المتحدة بفرضها؟ من هم المستهدفون؟ وما حجم المخاطر الكامنة في استخدامها؟ وذلك من خلال تحليل الأرقام، واستعراض المصالح المتشابكة، وقراءة مآلات النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
لفهم طبيعة العقوبات الثانوية لا بد من التمييز بينها وبين العقوبات المباشرة:
تستمد الولايات المتحدة سلطتها في فرض العقوبات -خاصة العقوبات الثانوية- من هيمنة مركبة: مالية، وتكنولوجية، وعسكرية، وسياسية. هذه الهيمنة تعزز قدرتها على التأثير في سلوك الدول والشركات العالمية.
الهيمنة المالية
الهيمنة التكنولوجية والتجارية
النفوذ العسكري والسياسي
تترجم هذه الأدوات إلى آليات عقوبات فعالة من إدراج كيانات في قوائم سوداء، وفرض غرامات باهظة، وتجميد أصول، ومنع من دخول السوق الأميركية، أو قطع العلاقة مع النظام المالي الدولي.
وتركّز العقوبات الأميركية الجديدة على خنق الاقتصاد الروسي بشكل غير مباشر، من خلال الضغط على الدول والشركات التي تتعامل مع موسكو في مجالات إستراتيجية مثل الطاقة، والمعادن، والتكنولوجيا.
ففي يوليو/تموز 2025، أعلن الرئيس دونالد ترامب مهلة مدتها 50 يومًا للتوصل إلى اتفاق سلام، وإلا فستُفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على الدول المستوردة للنفط أو الغاز الروسي.
بالتوازي، يناقش الكونغرس مشروع قانون يفرض رسومًا تصل إلى 500% على صادرات روسيا، ويشمل عقوبات ثانوية على الجهات الممولة أو الناقلة.
وحذّر ترامب من أن الشركات المتعاملة مع روسيا في قطاعات التكنولوجيا والمعادن قد تُمنع من دخول السوق الأميركية أو استخدام النظام المالي الدولي.
ورغم أن العقوبات لم تُفعّل رسميًا حتى لحظة إعداد التقرير، فإن الغموض بشأن توقيت دخولها حيّز التنفيذ يتسبب في إرباك الأسواق العالمية ويُفاقم من حالة عدم اليقين الاقتصادي.
يتجاوز تحدي العقوبات الثانوية مسألة قدرة الولايات المتحدة على إصدارها، ليشمل البنية المعقدة للعلاقات التجارية العالمية. فروسيا ترتبط بشبكات تبادل واسعة مع اقتصادات كبرى، في مجالات إستراتيجية مثل الطاقة، والمعادن، والغذاء.
وهذه التشابكات تجعل من محاولات عزل موسكو اختبارًا ليس فقط لقدرة واشنطن، بل لقدرة النظام العالمي برمته على تحمّل كلفة المواجهة.
أولًا: قطاع الطاقة
روسيا تُعد من كبار منتجي الطاقة ومصدّريها في العالم، إذ تصدر أكثر من 7 ملايين برميل نفط يوميا. وبلغت عائداتها من النفط والغاز نحو 192 مليار دولار في 2024، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.
إخراج روسيا من سلاسل توريد المعادن سيؤثر بشكل مباشر على الصناعة العالمية، بما في ذلك في الدول الغربية
وهؤلاء أبرز المستوردين للنفط الروسي:
ورغم تراجع الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية منذ اندلاع الحرب، لا تزال بعض الدول -مثل المجر وسلوفاكيا- تحصل على النفط عبر خطوط الأنابيب.
وتشير التقديرات إلى أن الغاز الروسي مثّل أقل من 19% من واردات الاتحاد الأوروبي في 2024، مقارنة بأكثر من 40% قبل الحرب.
ثانيًا: الأسمدة والمنتجات الزراعية
روسيا لاعب محوري في السوق الزراعية العالمية:
في يوليو/تموز 2023، انسحبت روسيا من اتفاق الحبوب، وهدّدت بعدم تجديد مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة بشأن تصدير الأسمدة بعد يوليو/تموز 2025، ما لم تُنفذ مطالبها، مثل ربط البنك الزراعي الروسي بنظام "سويفت" واستئناف خط الأمونيا.
ثالثًا: المعادن الإستراتيجية
تُعد روسيا من كبار مصدّري النيكل، والألمنيوم، والتيتانيوم، وهي معادن تدخل في صناعات السيارات، والطائرات، والإلكترونيات. وإخراج روسيا من سلاسل التوريد في هذه المجالات سيؤثر بشكل مباشر على الصناعة العالمية، بما في ذلك في الدول الغربية.
رابعًا: قطاعات إستراتيجية إضافية
تسيطر روسيا عبر "روس آتوم" على أكثر من 46% من قدرة تخصيب اليورانيوم عالميا، وتزوّد محطات نووية في أكثر من 18 دولة. حتى الولايات المتحدة تعتمد على روسيا في نحو 25% من وارداتها من اليورانيوم المخصب.
رغم العقوبات الغربية، استمر التعاون بين وكالة الفضاء الروسية ووكالة "ناسا" حتى عام 2022. وتعتمد عدة دول على الخبرة الروسية في إطلاق الأقمار الاصطناعية.
تُعد روسيا مصدرًا رئيسيًا للشعير، والذرة، وبذور دوّار الشمس وزيوتها.
كانت روسيا من كبار مصدّري الأخشاب عالميا. ورغم تراجع الصادرات، فإن الأسواق لا تزال تعاني من نقص في المعروض بسبب غياب الإمدادات الروسية.
كل هذه الروابط تجعل أي عقوبات ثانوية على شركاء روسيا بمنزلة رهان باهظ الكلفة قد يصيب الحلفاء قبل أن يصيب موسكو.
فرض عقوبات ثانوية على شركاء روسيا يعد رهانا باهظ الكلفة قد يصيب الحلفاء قبل أن يصيب موسكو.
فرض العقوبات الثانوية لا يهدد النظام العالمي فقط، بل قد يرتد مباشرة على الاقتصاد الأميركي من خلال:
هكذا وفي ظل دين عام يتجاوز 37 تريليون دولار، ومع استمرار الخلافات مع الاحتياطي الفدرالي حول الفائدة، تبدو الولايات المتحدة أقل قدرة على تحمّل صدمات خارجية إضافية.
وأي اضطراب في أسعار الطاقة أو الغذاء سيتحوّل سريعًا إلى أزمة داخلية تُفاقم التضخم وتُثقل كاهل المستهلك الأميركي.
تشير المؤشرات إلى أن العقوبات -رغم قوتها- لم تعد أداة احتكار أميركي خالصة، بل باتت تُسرّع من تشكّل نظام اقتصادي بديل، يتخلى تدريجيا عن الدولار و"سويفت"، ويتجه نحو تعددية في مراكز القوة.
ويرى بعض المحللين أن واشنطن، في سعيها للضغط على خصومها عبر العقوبات، تُسهم في تسريع التوازن العالمي الذي تسعى لمنعه. وبينما تتآكل أدوات الهيمنة التقليدية، تُعيد الولايات المتحدة استخدام أدوات من زمن القطب الواحد، في عالم بات أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
وفي حين لا تزال أميركا تملك اليد الطولى، فإن إدارتها المتفرّدة للأزمات، من دون توافق دولي حقيقي، قد تجعلها في نهاية المطاف تواجه عزلة من نوع جديد… لا تُفرض عليها، بل تنتجها ممارساتها.