آخر الأخبار

"المدينة ذات الأسوار الغامضة" رحلة موراكامي إلى الحدود الضبابية بين الواقع والحلم

شارك

تتسلل رواية الأديب الياباني الشهير هاروكي موراكامي الجديدة، "المدينة ذات الأسوار الغامضة"، إلى الوعي كصدى مألوف لمواضيع متكررة في أعماله: العزلة، والحب الأول، والحدود الضبابية بين الواقع والخيال.

تعيد الرواية صياغة قصة سابقة للكاتب من الثمانينيات، مقدمة إياها بنضج وتأمل أكبر، رغم بعض التكرار في الثيمات. إنها دعوة للتأمل في طبيعة الوجود، والذاكرة، وكيف تتشابك عوالمنا الداخلية مع الحقائق الخارجية، مقدمة تجربة قراءة فريدة تتجاوز مجرد السرد القصصي لتلامس أعماق الروح الإنسانية وتثير تساؤلات فلسفية عميقة.

يبرع موراكامي في بناء عوالم تتداخل فيها المشاعر الإنسانية العميقة مع الغرابة اليومية، حيث يمتزج الواقعي بالسريالي بسلاسة ودون تكلف، مما يخلق نسيجا سرديا غنيا ومعقدا يشد القارئ.

الشخصيات، رغم غرابتها أحيانا، تحتفظ بصدقها الداخلي الذي يجعلها قريبة من القارئ، وكأنها تعيش بيننا، تعاني وتفرح وتتأمل. ومع ذلك، قد تفتقر هذه الرواية إلى الزخم السردي الذي ميّز أعماله السابقة مثل "كافكا على الشاطئ" أو "1Q84″، حيث كانت الحبكة أكثر تعقيدا وتشويقا، وتتسم بتصاعد درامي لافت يبقي القارئ على أهبة الترقب.

يثير هذا التساؤل حول مدى الإضافة النوعية التي تقدمها هذه العوالم المتكررة، وهل ما زالت قادرة على إبهار القارئ بالقدر نفسه أم أنها أصبحت مجرد صدى باهت لتجارب سابقة، تفتقر إلى عنصر المفاجأة والابتكار الذي عودنا عليه موراكامي في أعماله الأكثر شهرة؟

مصدر الصورة هاروكي موراكامي يبرع في بناء عوالم تتداخل فيها المشاعر الإنسانية العميقة مع الغرابة اليومية، حيث يمتزج الواقعي بالسريالي بسلاسة ودون تكلف (أسوشيتد برس)

قلب وحيد في لحظة متجمدة

تدور الرواية حول شاب في الـ17 من عمره، يمثل نموذج موراكامي للمراهق المعزول والحساس، الذي يجد نفسه في مواجهة عالم داخلي معقد ومليء بالتساؤلات الوجودية حول هويته ومكانته في هذا العالم. يرتبط هذا الشاب عاطفيا بفتاة غامضة تصغره بعام، تدعي أنها شبح وأن "أناها الحقيقية" تعيش في مدينة مسوّرة.

إعلان

هذا الاختفاء الغامض للفتاة يشعل شرارة رحلة بحث تمتد مدى الحياة، تأخذه إلى هذه المدينة العجيبة التي تنبض بجدرانها العضوية ومكتبتها التي تُقرأ فيها الأحلام من أوعية بيضوية. هذه الرحلة ليست مجرد بحث عن الفتاة المفقودة، بل رحلة اكتشاف للذات ولطبيعة الوجود، رحلة تتشابك فيها خيوط الواقع والخيال، وتتداخل فيها الأزمنة والأماكن، مما يخلق تجربة فريدة من نوعها.

يعكس هذا العالم المزدوج بين الواقع والحلم جوهر مشروع موراكامي في استكشاف الهوية، والزمن، والحقيقة الداخلية. فالمسافة بين ما هو ملموس وما هو متخيل تتلاشى، مما يدفع الشخصيات والقارئ إلى التساؤل عن طبيعة الواقع وإذا ما كان ما نعيشه هو الحقيقة الوحيدة، أم أن هناك أبعادا أخرى للوجود.

تعكس عبارات مثل: "كأن آلاف الخيوط الخفية تربط جسدها بقلبي. أدنى رمشة من جفنيها تهز قلبي"، حساسية اللغة والمشاعر لديه، وقدرته على التعبير عن أعمق الأحاسيس بكلمات بسيطة ومؤثرة، تلامس شغاف القلب وتترك أثرا عميقا في الروح. لكنها في الوقت نفسه تعيد تأطير مفردات مألوفة لقراء موراكامي، مما قد يقلل من عنصر المفاجأة أو الاكتشاف بالنسبة لهم، ويجعلهم يشعرون وكأنهم يقرؤون نسخة معدلة من أعمال سابقة، من دون أن يضيف جديدا يُذكر.

تبدو المدينة استعارة لعقل مغلق أو روح منفية، مكان يمثل العزلة والبحث عن الذات، حيث تتجلى أعمق المخاوف والتساؤلات الوجودية. ورغم جمال هذه الاستعارة وقوتها الرمزية، إلا أنها تظل غامضة وتفتقر أحيانا إلى الدقة الرمزية التي عُرفت بها أعمال الكاتب الأخرى، حيث كانت الرموز أكثر وضوحا وتأثيرا، وتترك أثرا أعمق في الذاكرة الجماعية.

ومع ذلك، يمكن قراءة المدينة كتجسيد لعزلة ما بعد كارثة، مثل فوكوشيما، مما يمنح الرواية بعدا اجتماعيا معاصرا ومؤثرا، ويسلط الضوء على الجروح الخفية التي تتركها الكوارث في النفوس، وكيف يتعامل الإنسان مع الفقدان والدمار، حتى لو قُدم هذا الواقع من خلال عدسة سريالية وغريبة، تكسر حواجز المألوف وتدعو إلى التفكير خارج الصندوق.

مصدر الصورة في مكتبة ريفية قرب فوكوشيما، تتقاطع الأرواح الغريبة في عالم موراكامي المتجمد، بحثا عن معنى وسط الفقدان (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة)

موسيقى الحزن وإيقاع الذاكرة

تميّز هذا النص بإيقاع يشبه موسيقى الجاز، حيث يخفي الهدوء الظاهري والبطء المتعمد توترا داخليا عميقا وارتجالا فنيا، مما يضفي على النص طابعا فريدا ومميزا. في الجزء الثاني من الرواية، نتابع الراوي كمدير لمكتبة ريفية قرب فوكوشيما، في تحول مكاني يضيف بعدا جديدا للقصة، ويربطها بواقع ملموس يعكس آثار الكوارث الطبيعية والبشرية.

يتيح هذا التحول لموراكامي تقديم شخصيات غريبة الأطوار وفريدة من نوعها، مثل مدير سابق يرتدي تنورة وقبعة زرقاء، ومراهق صامت يرتدي جاكيت "يلو سبمارين". هذه الشخصيات تعزز بصمته الواقعية السحرية وتمنح الرواية نكهة فريدة من الغرابة الحميمة التي تميز أسلوبه، وتجعل القارئ يتساءل عن حدود الواقع والخيال، وعن طبيعة الوجود الإنساني في ظل الظروف الغريبة.

هذه الشخصيات ليست مجرد إضافات زخرفية للقصة، بل تعمق الإحساس بالزمن المتجمد والوجود العائم، وتسهم في بناء عالم الرواية الفريد، حيث يصبح كل تفصيل ذا معنى ودلالة عميقة. تتحول طقوس الحياة اليومية، مثل الطبخ والمشي وترتيب الكتب، إلى أدوات مقاومة ضد التيه الوجودي والفراغ العاطفي، وكأنها طقوس مقدسة تساعد على استعادة التوازن الداخلي في عالم مضطرب.

إعلان

تعبر جملة الراوي: "كلما مررت ببرج الساعة، كنت أنظر إلى وجهها بلا عقارب. الزمن لم يتوقف، لكنه فقد معناه"، عن جوهر الرواية: تأمل عميق في الزمن الفاقد لمعناه، في عالم تعرض لصدمة فقدان جماعي، مما يعكس حالة من الحزن والتأمل العميق في طبيعة الوجود الإنساني، وكيف يمكن للإنسان أن يجد معنى في الفقدان.

يكشف نثر موراكامي، بجمله القصيرة والمكثفة، عن تعلق الراوي بأشياء مثل المحيط، الذي يصفه بأنه: "مادة يمكن لمسها وفكرة نقية مطلقة". هذا التوتر بين الملموس والمجرد، بين البسيط والعميق، يضيف بعدا فلسفيا للنص، ويدعو القارئ إلى التفكير في طبيعة الوجود، والبحث عن المعنى في تفاصيل الحياة اليومية، حتى في أبسطها.

ومع ذلك، قد لا يروق الإيقاع البطيء والمتأمل بعض القراء الذين يبحثون عن حبكة تقليدية أو تصاعد درامي سريع، حيث تعتمد الرواية بشكل أكبر على الأجواء والتأملات الفلسفية، وتتطلب صبرا وتأملا من القارئ لكي يستوعب عمقها الفكري والعاطفي.

مصدر الصورة الراوي يعود إلى المدينة بصحبة المراهق، في رحلة رمزية تشبه تسليم الراية، حيث ينتقل عبء البحث والاكتشاف إلى جيل جديد (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة)

العودة إلى المدينة: زمنٌ داخلي متوتر

في الجزء الثالث، يعود الراوي إلى المدينة بصحبة المراهق، في رحلة رمزية تشبه تسليم الراية، حيث ينتقل عبء البحث والاكتشاف إلى جيل جديد، وكأنها دورة حياة تتجدد وتستمر. تتحول المدينة في هذا القسم من متاهة عقلية إلى ملاذ للأرواح الضائعة، مكان يوفر نوعا من السلام المؤقت ويعيد التوازن بين الداخل والخارج، ويمنح الأمل في عالم مضطرب ومليء بالتحديات.

هنا، تتجلى براعة موراكامي في خلق فضاءات سحرية واقعية، تتجاور فيها التفاصيل اليومية والرموز الوجودية بسلاسة وتناغم، مما يخلق تجربة قراءة فريدة من نوعها، تجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من هذا العالم الغريب والجميل.

قراءة الأحلام في المكتبة، حيث "تنتقل إلى الأيدي إحساسات دافئة" و"تبدأ الأحلام في نسج نفسها"، هي استعارة قوية للقراءة نفسها، وللانغماس في عوالم تتجاوز المألوف، حيث يصبح الكتاب بوابة لعوالم أخرى، ومصدرا للمعرفة والتأمل، وملاذا للروح.

تلخص الجملة المؤثرة التي تقول: "كانت مجرد مرحلة انتقالية، حلقة في سلسلة طويلة تستمر إلى الأبد. لكنه رأى أن هذا يكفي" موقفا وجوديا يتمثل في القبول باللحظة والمعنى غير المكتمل، والرضا بما هو متاح، والبحث عن السعادة في أبسط الأشياء، والتعايش مع الغموض الذي يكتنف الحياة.

ومع ذلك، يظل الجزء الأخير أقل توترا من سابقيه، وتغيب عنه الصدامات الدرامية التي عرفت بها أعمال موراكامي السابقة، مما قد يجعله أقل إثارة لبعض القراء الذين يبحثون عن الإثارة والتشويق المستمر.

يثير هذا تساؤلات عما إذا كان ذلك نضجا في أسلوب الكاتب، أم خفوتا في حدة السرد، خيارا جماليا مقصودا، أم تعبا سرديا. يحتفظ الكاتب بموقفه المراوغ، حيث يتناوب الحضور والغياب في سرده، مما يترك للقارئ مساحة للتأويل والتفكير، ويجعله شريكا في بناء المعنى، بدلا من أن يكون مجرد متلقٍ.

مصدر الصورة الرواية تقاوم الفهم السريع ولا تقدم أجوبة سهلة أو حلولا واضحة، بل تدعو القارئ إلى التفكير والتأمل، والبحث عن إجاباته الخاصة (مولدة بالذكاء الاصطناعي- الجزيرة)

الصدى الأخير: مدينة داخل العقل وحلم لا يزول

ما يبقى بعد الانتهاء من الرواية هو مزاجها العام: حزن رقيق، وشعور بالانجراف، وتمسك بشذرات أمل هش. إنها ليست رواية تعتمد على الحبكة التقليدية، بل على التجربة الحسية والفكرية— تجربة القراءة، والتأمل، والانغماس في عالم غريب ومألوف في آن واحد.

عالم يلامس الروح ويحرك المشاعر، ويترك أثرا عميقا في الذاكرة، ويدعو إلى التفكير في طبيعة الوجود الإنساني. إنها دعوة للتفكير في طبيعة الوجود، والبحث عن المعنى في تفاصيل الحياة اليومية، وفي العلاقات الإنسانية.

إعلان

تقاوم الرواية الفهم السريع ولا تقدم أجوبة سهلة أو حلولا واضحة، بل تدعو القارئ إلى التفكير والتأمل، والبحث عن إجاباته الخاصة. تعبر جملة الراوي: "بعد 20 عاما، سأحبها أكثر"، عن طبيعة نصوص موراكامي: أعمال تنمو بمرور الوقت وتتطلب قراءات متكررة للكشف عن طبقاتها الخفية ومعانيها العميقة، فهي ليست مجرد قصص، بل هي تجارب فكرية وروحية تتطور مع الزمن، وتزداد عمقا مع كل قراءة.

على الرغم من تكرار بعض الثيمات والمواضيع التي عرفت بها أعماله السابقة، يظل هذا العمل شهادة على نضج موراكامي وقدرته على إعادة تشكيل مفرداته بأسلوب جديد ومتطور، يجمع بين البساطة والعمق، ويقدم رؤية فريدة للعالم. إنه لا يعيد كتابة نفسه، بل يعيد الحفر في البئر نفسها بحثا عن مياه أكثر عمقا وأصالة، مما يثبت قدرته على التجديد والابتكار المستمر.

وربما تكون "المدينة ذات الأسوار الغامضة" مدينة داخل عقولنا، نلجأ إليها عندما نفقد بوصلتنا ونحتاج إلى الاحتماء بجدران اللغة والحلم، لتكون ملاذا روحيا وفكريا، ومصدرا للإلهام والتأمل في رحلة الحياة المعقدة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار