في سابقة من نوعها بالمغرب، خصص "مختبر السرديات" احتفاء استثنائيا وكبيرا ونوعيا بالكاتب والناقد المغربي محمد برادة، أستاذ الأجيال في السرد والنقد الأدبي وأحد المساهمين في تأسيس الدرس الجامعي الحداثي والتنويري بالمغرب، وأهم أعلام الكتابة الأدبية الروائية والنقدية، وأبرز المنفتحين بشكل مبكر على المناهج الغربية الحديثة وعلى تجسير الهوة بين المشرق والمغرب.
كان يوم السبت 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري يوميا فريدا في المغرب، اجتمع فيه أكثر من 100 ناقد وباحث مغربي في 24 مدينة بمختلف ربوع المملكة في لقاءات اعتراف ومحبة ومدارسة لمجموع إنتاج الدكتور محمد برادة، الذي راكم على مدى ستة عقود إنتاجا أدبيا مهما موزعا على النقد الأدبي والترجمة والإبداع القصصي والروائي والمقالة الأدبية، إلى جانب العمل الثقافي والنضالي على الجبهتين العربية القومية والوطنية، ودفاعه المستميث عن القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في استرجاع أرضه والعيش بسلام.
عرف اللقاء الاحتفائي بالدكتور محمد برادة "المعلم الكبير"، كما يصفه العديد من الباحثين وطلبته، والمخصص له في مساء اليوم نفسه بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط، التئام أربعة أجيال من النقاد والباحثين الذين قدّموا شهادات بحضور مؤسس الدرس النقدي المغربي الحديث، من بينهم الكتاب والنقاد: سعيد يقطين، ومحمد الهرادي، ومحمد الداهي، وعبد الرحيم جيران، ونجيب العوفي، والميلود عثماني، وإدريس الخضراوي، وإبراهيم أزوغ.
وقد نظم مثل هذا اللقاء، إضافة إلى العاصمة الرباط، مدن: الدار البيضاء ووجدة والنواصر وتطوان ومكناس ودمنات وزاكورة وسيدي قاسم وفاس وبني ملال ومديونة والدروة والقنيطرة وخريبكة والفقيه بنصالح وبنسليمان ومراكش وأكادير وبرشيد والجديدة وأزمور وسيدي بنور وآسفي.
وهذا الاحتفاء ببرادة سينظم في العديد من المدن والحواضر المغربية، وستشتمل لقاءاته على مجموعة من الكتاب والنقاد العرب والأجانب الذين ربطتهم بمحمد برادة علاقات صداقة ثقافية وفكرية ممتدة عبر الزمن، وسيصدر كتاب ورقي وآخر إلكتروني يوثقان لهذا اللقاء الفريد والنوعي بالمغرب في شهر مارس/آذار المقبل.
خلال هذا اللقاء اعترف المشاركون بفضل محمد برادة عليهم على مستويي التكوين والتوجيه، إذ فتح أعينهم على ما يمكن أن يخدموا به الثقافة والأدب بالمغرب، حيث عمل على مدى ستة عقود دون كلل على خدمة الأدب والثقافة، والإسهام في بناء المشروع الثقافي الحداثي والدفاع عنه في الجامعة والمجتمع المغربيين، لدرجة جعلت الكاتب شعيب حليفي رئيس "مختبر السرديات"، الذي يقف وراء تنظيم هذه التظاهرة الكبرى بالتنسيق مع مختبرات وجمعيات المجتمع المدني بمختلف المدن والحواضر المغربية، يقارنه بالمناضل السياسي الراحل المهدي بن بركة، الذي كان له التأثير الكبير في المسار السياسي والحقوقي بالمغرب، إذ قال:
"إن ما فعله المهدي بن بركة في مجال السياسة وبناء الروح القوية، فعله برادة في المجال الثقافي والأدبي لأنه زرع فينا روح النقد وعدم الاستسلام والإيمان بالقدرة على التغيير، ولهذا فنحن مدينون له بفتح أعيننا على هذا الأفق الحداثي والنهج التنويري الذي يجعلنا نعود إليه باستمرار، ونتذكر باستمرار مواقفه الوطنية والقومية العربية النبيلة".
وأضاف حليفي "ليس هناك سبب واحد للاشتغال على منجز محمد برادة، لأننا نشتغل عليه باستمرار، وما هذا اللقاء الاحتفائي إلا تحية وتكريم لأستاذ الأجيال أساسا ولتاريخه الثقافي الذي يمتد لأزيد من ستة عقود، استمر فيها بالشغف نفسه على الفعل النبيل والمتنامي، والقدرة النقدية على ربط المثقف بواقعه وذاكرته ومتخيله، لأن الثقافة برأيه هي المستقبل، وهي الوسيلة الفضلى التي يمكن لها أن تنقد الإنسان من العبث المحيط به".
وأشار شعيب حليفي، في تصريح للجزيرة نت، إلى أن قيمة محمد برادة تتجلى في أنه كاتب وإنسان قدم الشيء الكثير للثقافة المغربية والعربية على مدى ستة عقود، ولهذا يستحق أكثر من تكريم، و"لأنه أيضا كان سباقا في إبداع أشكال جديدة في الثقافة فهو يستحق إبداعا في التكريم، في يوم واحد وفي مجموع المغرب بمساهمة نقاد وباحثين من مختلف الأجيال، أغلبهم من جيل الشباب، يقرؤون ويحاورون كتابات محمد برادة في الرواية والقصة والنقد الأدبي والمقالة والترجمة. وهي كتابات تتميز بالجدة والرؤية النقدية وبالتخييل المرتبط بآفاق رحبة ومنفتحة على الذوات والأصوات".
من جهته عبّر الكاتب محمد برادة بتأثر بالغ، للجزيرة نت، عن إعجابه وامتنانه لهذه المبادرة الجميلة لمختبر السرديات، والتي وجد فيها الكثير من الاعتراف والاعتبار، وعنصرا إيجابيا يتمثل في قدرة مجموعة من الباحثين على إخراج النشاط الجامعي من أسوار الجامعة إلى جمهور أوسع، وأعطوا للكاتب والكتاب وجودا بين الناس، لأنهم بهذا الصنيع سيعملون على التشجيع على القراءة وتمكين الكتّاب من العيش من كتاباتهم.
وهذا برأيه ما يجب أن يعيه المسؤولون عن الجامعات بالمغرب التي لا يمكن أن تعيش وتزدهر وهي منكفئة على ذاتها. كما رأى في هذه المبادرة إعادة اعتبار للكاتب المغربي، وتسليط الضوء على أهمية الأدب والثقافة حتى يحظى صانعوه بالاهتمام مثلما يحدث مع أبطال كرة القدم في المغرب.
وعن إمكانية تحويل هذا التكريم الوطني إلى تقليد بالمغرب، أكد حليفي للجزيرة نت أن المغرب يزخر بالعديد من الأعلام من النساء والرجال في التاريخ القديم والحديث ممن يستحقون أن يقوم لهم المغاربة تقديرا على ما قدموه بسخاء كبير وتجرد وعفة وفي كل المجالات، مشيرا إلى أن هناك طرقا وأساليب لقراءة ومحاورة تجاربهم وأفقهم ومشاريعهم الثقافية التنويرية، خاصة أن من أدوار المثقف العمل الميداني التنويري الذي يثمن التراكم الثقافي بما يحمله من قيم كبرى.
ولأن "البناء الصحيح والتحصين الآمن، فضلا عن التفاعل المستمر مع الآثار الإنسانية الكبرى، هو الحوار مع عقلنا ووجداننا الجماعي بكل تياراته، ولا أحد يختلف اليوم على أن القيم التاريخية التي تصون أرواحنا من الأعطاب السريعة والمزمنة توجد فيما خلفه المثقفون المغاربة على مرّ التاريخ وفي كل المجالات، ونعتبر أننا مدينون لهم بوجودنا الثقافي".
يقترن اسم الكاتب محمد برادة -الذي ولد عام 1938 بالرباط- في الذاكرة المغربية والعربية بالتأسيس والتجديد والبناء المتواصل لأسئلة ثقافية جديدة وتفاعلية، دافع عنها باحثا وأستاذا جامعيا، إلى جانب نخبة من أبرز المثقفين والجامعيين، من بينهم أحمد اليابوري وأحمد المجاطي وإبراهيم السولامي وحسن المنيعي وعبد الفتاح كليطو ومحمد السرغيني وآخرون سبقوهم في فترة الاحتلال الفرنسي وبعدها إبان الاستقلال، وانخرطوا في وضع اللبنات الأساسية لأدب مغربي حداثي يتوسل باللغتين العربية والفرنسية، ويتفاعل مع أسئلة الإبداع والثقافة في المشرق والعالم.
وقد درس برادة بالعاصمة الرباط قبل أن يسافر إلى القاهرة لمواصلة دراسته الجامعية، حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي ....