هل ذاكرتنا هي مجرد تسجيلات عابرة للأماكن والأشخاص، أم أنها بوصلة تكشف عن هوياتنا المغيّبة؟ وهل يمكن للماضي أن يعيش فينا بوصفه كيانا حيا، أم أننا نعيش زمنًا متسارعًا يخفي أصولنا وحكاياتنا؟ هل الطقوس اليومية البسيطة، مثل وجبة ساخنة تقدمها يدٌ حانية، تشكل أنماطًا عميقة من العدالة والحب لا تُنسى؟ وإذا كان ديوان “سبحانك يا بلدي” صرخة جيل، فهل ما نراه اليوم هو جواب عن تلك الصرخة، أم إعادة إنتاجها في مغرب مختلف في الصورة، متشابه في الجوهر، أيُّ أستاذٍ هذا الذي كلّما اقترب منه الضوء… ابتسم له بأدب، ثم ابتعد خطوة إلى الوراء ليمنحه لطلّابه؟ هل نحن مستعدون لاستقبال تلك التلاقيات بين الزمن والمكان والكينونة، أم أننا نخشى أن نفتح أبواب الذكريات التي تحرّك مشاعرنا وتعيدنا إلى ما كنا عليه؟ حين تهمس الذكريات بأسرارها، تنفتح أمامنا أبوابٌ خفيّة نعبر منها لنستعيد ما لم يكن مقدَّرًا له أن يُنسى أبدًا:
لم يكن في ذلك الصباح ما ينبئ بأنني سأتعثر بالذّاكرة على رصيف الشارع. كنت أسيرُ كمن يمشي في عصر لا يشبهه، سريعًا، متوترًا، بعينين تبتلعان الواجهات الزجاجية وملصقات التخفيضات، حين وقعت عيني على مشهد بدَا كأنه انسلّ من شريط قديم بالأبيض والأسود: عجوز تلبس جلابية داكنة، وتغطي وجهها بلثام خفيف، تمشي بخُطى بطيئة لكن ثابتة، وكأنها تعرف الطريق منذ قرون. توقفتُ، ليس بجسدي، وإنّما بقَلْبي. ذلك الثوب الواسع، واللثام الذي لا يكشف سوى العينين، الحذاء البلاستيكي القديم، وحتى الكيس الملفوف بعناية في يدها، كل شيء فيها كان نغمة من أغنية قديمة، نشازها الوحيد هو أننا الآن في سنة 2025، وأن المدينة تغيرت كما لو أنها باتت نسياً منسياً في ذاكرة التاريخ.
تذكرتُ أمّي. تذكّرتُ أصوات النساء العائدات من السوق، وهن يتهامسن خلف اللثام كأنهن يخفين سرّ النهار في طيات الكلام. تذكّرتُ يدي الصغيرة تتشبّث بطرف جلابية أمي، ورائحة الخبز الساخن تتسلّل من المطبخ، والنحاس المصقول يلمع في زوايا البيت كمرآة لزمن آخر. كانت العجوز تمشي، وكنت أمشي، لكن الزمن هو الذي توقّف. لم تكن تخطو في الشارع فحسب، وإنما كانت تمشي في داخلي، في ممرات الذاكرة، في مطبخ الطفولة القديم، على الحصير الذي يغطي الأرض، في صوت الراديو الذي لم يكن يغني إلا حين يجتمع الجميع. لم يكن في مظهرها أي محاولة لاستعادة الماضي، لم تكن ترتدي الجلابية استعراضًا، لكنها كانت ترتدي جلدها الأصلي، هُويتها، ذلك الرداء الذي لم تفصّله الموضة، وإنما صاغته الأيام والخبرات والرّضى ـ نحن أبناء السّرعة والتّطبيقات، نرتدي كل شيء، إلا أنفسنا. عدتُ إلى البيت أجرّ خطاي كما لو كنت أحمل على ظهري حقيبة مليئة بأصواتٍ وروائح لم يعد لها مكان. كانت فكرة واحدة تتردّد في رأسي مثل همسٍ عنيد: الماضي صار نادرًا، نادرًا لدرجة أنّه حين يمرّ أمامنا، في هيئة عجوز تكسوها الجلابية ويغطيها اللثام، يتغيّر الهواء من حولنا، ويبهَتُ لون الشّارع، ونبكي بكامل أجسادنا… بدمعة واحدة.
كان ذلك في أواخر السّبعينيّات، عصر الحقائب الجلدية الثقيلة والسّبورات الخضراء، حين كانت الرباط تستيقظ على وقع خطوات التلاميذ في شارع محمد الخامس. كنت أصعد ذلك الصباح نحو ثانوية الحسن الثاني، لا أحمل سوى كتبي وارتباك مراهق يبحث له عن مكان في هذا العالم، فإذا بعيني تستوقفهما واجهة مكتبة صغيرة عند الزاوية. على الرف الأول، كان الديوان يلمع وسط عناوين مألوفة: “سبحانك يا بلدي”.
شدّني الغلافُ قبل العنوان؛ لونٌ متواضع لكن فيه شيء من الجَلال، واسم الشاعر: أحمد بلبداوي. تجمّدتُ لحظة. أحمد بلبداوي؟ أهو نفسه أستاذ اللغة العربية الذي يشرح لنا المتنبي وينهر ثرثرتنا بحزم الأب الحنون؟ أم هو تشابه أسماء فقط؟ ظلت الأسئلة تتزاحم في رأسي، وشيء ما في داخلي يتمنى أن يكون صاحب الديوان هو نفسه الرجل الذي يكتب على السبورة بحروف تشبه القصائد. اشتريت الديوان بميزانية تلميذ شَحيح الجَيب، وفتحته على عجل في أول زاوية هادئة صادفتني. لم تكن قصائد الديوان عادية؛ كانت كاليغرافيا تمشي على الورق، كلمات تتلوى في تشكيلات مُدهشة، كأن الحرف نفسه قد قرر أن يتحرّر من سطوره ويصير رسماً وصوتاً في آن واحد. شعرتُ أنني لا أقرأ شعراً فحسب، وإنما أشارك في مغامرة جمالية جديدة. ومنذ تلك اللحظة، صار “سبحانك يا بلدي” رفيق حقيبتي وليْلتي معاً. مرّت الشهور، واقتربت السنة من نهايتها. كنا على مشارف امتحان الباكالوريا، وقد فتح لنا الأستاذ بلبداوي باباً رحباً من الثقة؛ قال لنا ذات حصّة إنّ بإمكاننا أن نقترح نصوصاً من خارج المقرر لنحلّلها معه، شريطة أن تكون جديرة بالتّأمل. كنت آنذاك قد الْتهمتُ من الروايات والدواوين ما يكفي لأن أتشجعَ… لكن الخجل كان يجرّني إلى الخلف في كل مرة أودّ فيها أن أرفع يدي. في تلك الحصّة الفارقة، قررت أن أقاوم ترددي. ارتفعت يدي خجولة، فتوقّفت أعين الزملاء عندي، وأشار إليّ الأستاذ أنْ تفضّل. خرج صوتي واهِناً قليلاً:
-“أستاذ… هل من الممكن أن نقرأ نصوصاً من ديوان “سبحانك يا بلدي”…؟”
هنا خذلَني لساني وتوقّفت، لم أُكمل اسْم الشّاعر. لحظةُ صمت ثقيل مرّت على القسم كأنها دهْر. رأيت حُمرة خفيفة تصعد إلى وجه الأستاذ، مزيجاً من الدّهشة والحياء، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة رصينة لا تظهر إلا في اللّحظات النّادرة. عندها جاء الجواب الذي ما زال يرنّ في أذني حتى اليوم، جوابٌ يليق بشاعر حقيقي ورجُلٍ نَبيل:
لا… لا يمكن، يا بنيّ، حتى لا يُقال إنني أروّج لبضاعة أخاف عليها من الكَساد.”
قالها بنبرة هادئة، فيها من التّهكم على الذات بقدر ما فيها من التّرفع عن استغلال مكانته. لم يكن الرفض رفضاً للديوان، كان درساً في الأخلاق قبل الأدب، في النّزاهة قبل البلاغة. فهمتُ يومها أن المعلم العظيم ليس من يملأ رؤوسنا بالنصوص، وإنما من يعلّمنا كيف نقف بعيداً عن الأضواء حتى تبقى الكلمة أنقى من المصالح والاعتبارات الصغيرة.
خرجت من تلك الحصة وأنا أنظر إلى أستاذي بعيْن مختلفة؛ لم يعد مجرد مدرّس يشرح قواعد النحو والعروض، فقد صار في نظري نصاً إنسانياً عميقاً، يمكن أن يُقرأ عشرات المرات دون أن يُستنفد. ظلّ ديوانه في حقيبتي، لكن قصيدته الأجمل كانت تلك الجملة المتواضعة التي قالها أمامنا. اليوم، كلما مررتُ بشارع محمد الخامس، أو وقعت عيني على غلاف الديوان العتيق، أستعيدُ ذلك الصباح البعيد وذلك الاحْمرار الخجول على وجه الأستاذ أحمد بلبداوي، فأهمسُ في داخلي كما لو كنت لا أزال تلميذاً في الصّف: “ما أروعك أستاذي… وما أكرمَك حين اخترتَ أن تظلّ القصيدة أكبر من صاحبها.”
لم يكن “مُولْ المعقودة” مجرد بائع طعام في حيّ شعبي داخل دكانٍ صغير تفوح منه رائحة القلي؛ كان كائناً شبه أسطوريّ في خريطة طفولتنا، حارساً لمرحلة عابرة بين المدرسة والبيت، بين جغرافيا الجِدّ وجغرافيا اللذّة. هو ذاك الرجل ذو القبعة المتّسخة قليلاً، المبتسم أبداً، الذي كانت أصابعه تعرف كيف تَطوي رغيفًا بسيطًا، وتملأه بخليط من البطاطس المهروسة، والهَريسة، والزيتون، وربما شيء من الزيت، ثم يضغط عليه بباطن راحته، كأنها تبصِمه على الولاء الأبديّ. كنا نخرج من المدرسة ببطونٍ تقرع طبول الفَوضى، نركض نحو رُكْنه، نساومه بعشرين فرنك أو نصف درهم، وهو لا يُخيِّبنا أبدًا. كان يعرف أن لُقيْماته تلك ليست مجرد طعام، بقدر ما كانت طقسًا يوميًا للانتماء. كنا نلتهم المعقودة ونحن نسير في جماعات، نلْعَق أصابعنا، نضحك، ونحاول أن نخمّن كم “قرصة” من البطاطا قد وضعها هذه المرة. وكان هو، “مُولْ المعقودة”، يراقبنا من بعيد بنظرة لا تخلو من الحنان… كأنه جَدٌّ مؤقت لجميع أطفال الحيّ.
في زمن لم تكن فيه “الوجبات السريعة” موضة، كان “مول المعقودة” سبّاقًا إلى ابتكار ما يُشبه الثورة الصامتة في عالم الطفولة الجائعة. لا وجبة مدرسية كانت توازي لذة قطعة معقودة ساخنة تُمسكها بأطراف أصابعك، وهي تلسعك قليلاً لكنك لا تبالي. كان ثمنها زهيدًا، كأن الحياة نفسها كانت تتآمر معنا على البساطة. والآن، بعد كل هذه السنين، صارت صورته تلوح لي كأيقونة تُخزّن في الذاكرة نكهة الماضي الذي لا يُستعاد. كم هو غريب أن يكون رجل يبيع المعقودة قد علّمني أول دروس العدل، حين كان يُقسِّم الرغيف بيننا بالسوِيّة، أو أول دروس الحب، حين كان يُضيف “زيتونتين” إضافيتين إذا شمّ فيك جوعًا خفيًا.
“مول المعقودة” لم يكن طاهيًا فقط، كان شاعرًا من نوعٍ آخر. يكتب بالزيت، ويقلي بالحُبّ، ويعجن بالماء الحافي والكرم الخالص. كان يُمارس شكلاً من أشكال الرعاية الشعبية التي لا تُدَرَّس في كليات الطبخ ولا تُمنح عليها “نُجوم مِيشْلاَن”، لكنه كان نجمَنا الذي لا يخفت. واليوم، حين أمرّ من نفس الزقاق، حيث حلّت محلّه ” مشاوي الشام”، أشعر بفراغٍ خفيف في مَعدتي وقلبي. ليس الجُوع هو ما يؤلمني، وإنما غياب ذاك الطقس، ذاك الرجل، ذاك العالم الصغير الذي كان يخيط يومنا بخيط من البطاطا الساخنة والضحك الطفولي.
فَيَا “مُولْ المَعقودة”… إن كنت لا تزال حيًّا، فاعلم أن أطفالك قد كبروا، لكنهم لا زالوا يفتقدونك، واحدًا واحدًا كلّما قرصَهُم الحنين.
في صباحات الأحد، كنا نذهب إلى السينما كما يذهب غيرنا إلى الكنيسة. كانت سينما “سطار” على مشارف باب لعلو بمدينة الرباط لا تعني لنا مجرّد قاعة مظلمة تُعرض فيها أفلام الكاراتيه والكاوبوي، وإنما كانت عالَمًا موازِيًا، يتدلَّى من سقف الخيال ويهبط على رؤوسنا الخفيفة مثل نيزكٍ وديعٍ من الصور والحكايات. كنا أطفالًا، لا نفهم من الحياة إلا ما تمنحه لنا تلك الشاشة البيضاء: ضربة” بروس لي” السريعة كالرعد، نظرة ” كلينت إيستوود” الباردة، أو قفزة البطل من فوق القطار، وهي اللحظة التي كنا نرفع فيها أقدامنا عن الأرض كأننا سنقفز معه. كان الوقت متجمّدًا، والسعال داخل القاعة جزءًا من المؤثرات الصوتية، ورائحة الفول السوداني، والعرق تعبيرًا حسيًّا عن الفرح الجماعيّ. لم نكن نملك تذكرة دخول في جيب كل واحد منّا، وإنما نحمل أحلامًا صغيرة نمرّرها خلسةً في زحمة الأطفال المتراصين على باب سينما “سطار” وقد بدا لنا بوابة نحو ما هو أكبر من الحيّ، من المدرسة، من الأسرة، من الوطن حتى. هناك، داخل العتمة، كنا نعيد ترتيب العالم وفق منطق آخر: الخير دائمًا ينتصر، الشر دائمًا يُصفع، والحب دائمًا يتسلل من بين الرصاص والدخان. في سينما” سطار” تعلمنا البكاء سرًّا، حين يموت البطل ولا يعود. تعلمنا أن نصرخ مع الآخرين عندما ينفجر الشرير، وأن نضحك رغمًا عنّا حين ينكسر أنف المتغطرس. كانت السينما تربية وجدانية، مدرسة عاطفية غير معترف بها، لكنها عميقة الأثر، وأشد صدقًا من كثير من الدروس. كنا نخرج من القاعة ونحن نترنّح بين شخصيات الفيلم، كل واحد منا يعتقد، بيقين طفولي، أنه اكتسب مهارة القتال، أو أنه يملك الآن بندقية خفية، أو أنه صار يعرف كيف يقبّل فتاة في منتصف مشهد المطاردة. وكثيرًا ما تَحوَّل الحيّ بأكمله إلى ساحة تمثيل: من يمشي على السور، من يتقافز فوق الأسطح، من يتظاهر بالإصابة، من يُقلّد صرخة “جاكي شان”. كانت سينما “سطار” أيضًا ملاذًا من العالم الواقعي الباهت، حيث لا توجد ديون، ولا شتائم الآباء، ولا النقط الحمراء في دفاتر الحساب. كانت فردوسًا أرضيًا مدفوعًا بثمن زهيد، لكنه يشتغل في أعماق الذاكرة حتى بعد أن أُغلقت أبواب السينما إلى الأبد، وتحولت إلى متجر أحذية. الآن، وبعد أن كبُرنا، لم نَعُد نبحث عن سينما «سطار» على الخريطة، فقد غدتْ في وجداننا حالةً شعوريةً خالصة: ذلك الإحساس النادر بأن العالم ما زال يفيض بالدهشة، وأن الصورة – مهما اهتزّت أو تشظّت – تظلّ قادرةً على إشعال نورها في العتمة. لم تكن “سطار” فقط قاعة سينما، كانت بمثابة محراب جماعي نُقيم فيه طقوس الحلم. ومن لم يعش صباحات الأحد داخلها، لن يفهمَ تمامًا كيف يمكن لفيلم رديء أن يخلق في نفسكَ لحظة خالدة.
فهل يمكن أن يكون الماضي حياً، متلبساً بصورة امرأة ترتدي اللثام، تسير بخطى لا تنتمي إلى زمننا؟ هل التواضع هو أعلى درجات الضوء حين يتجسّد في أستاذٍ يهرب من الأضواء، لكنه يتركها مشتعلة في عيون طلابه؟ كيف يختبئ زمن الطفولة في رغيف معقودة بيد بائع بسيط، كأنه توقيع خفي على براءة وانتماء لم يمت؟ وهل سينما “سطار” التي اعتبرناها مجرد مكان للترفيه، لم تكن في الواقع إلا معبداً للذكريات؟ ما الذي يجعل من هذه اللحظات الصغيرة مفاتيح عبور إلى عوالم تختزنها الذاكرة، لكنها ترفض أن تبقى مجرد ذكرى؟ وهل يمكن للدهشة أن تكون بوابة نعيد عبرها كتابة تاريخنا المفقود، بلغة صامتة لكنها أبلغ من الكلمات؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
المصدر:
هسبريس