في إصدار علمي لافت يسلط الضوء على الجذور العميقة للنموذج السياسي المغربي، نشرت “المجلة الدولية للبحوث العلمية – لندن” (IJSR) دراسة أكاديمية حديثة للباحثين عبد الرزاق المسكي وأشرف الطريبق، قدما فيها قراءة مركبة ومغايرة لبنية الشرعية في المغرب.
الدراسة، التي جاءت تحت عنوان يربط المفهوم الفقهي بالواقع الجيوسياسي، اعتبرت أن “البيعة” ليست مجرد طقس بروتوكولي عابر، بل هي “المفتاح السحري” لفهم استمرارية الدولة المغربية وامتداد سيادتها من المركز في الشمال وصولا إلى التخوم الصحراوية في الجنوب.
وتفكك الورقة البحثية المفهوم السائد للبيعة، متجاوزة النظرة السطحية التي تحصرها في البعد الاحتفالي أو الديني الصرف، حيث يجادل الباحثان بأن البيعة في المغرب تمثل “طبقة جيولوجية” صلبة في تشكّل الدولة، حيث تلعب دور الرابط العضوي بين ثلاثة أبعاد: النص الدستوري الحديث، الذاكرة الجماعية للأمة، والطقس السياسي التقليدي.
وفي مقارنة مع الملكيات الأوروبية العريقة (بريطانيا، إسبانيا) أو الجمهوريات المركزية (فرنسا)، تخلص الدراسة إلى أن البيعة المغربية تتميز بكونها لا تنقضي بانقضاء لحظة التبايع، بل هي “أثر بنيوي” يعيد إنتاج حضور الدولة وسلطتها المعنوية والسياسية باستمرار، حتى في ظل تغير المؤسسات الحكومية أو الإدارية.
وهنا تبرز مؤسسة “إمارة المؤمنين” كنقطة تقاطع فريدة يلتقي فيها الفقه المالكي بالسياسة الواقعية، والطقس الجماعي بالذاكرة التاريخية، مما يمنح الشرعية المغربية طابعا “فوق–دستوري” يحصن الدولة من الهزات.
الصحراء المغربية.. وثائق الولاء والسيادة
خصصت الدراسة حيزا محوريا ومفصليا لقضية الصحراء المغربية، ليس من زاوية الصراع السياسي الآني، بل من زاوية الأنثروبولوجيا السياسية والتاريخ، حيث يستعرض الباحثان بالدليل والوثيقة كيف أن البيعة كانت هي “الناظم القانوني والسياسي” للعلاقة بين سلاطين المغرب والقبائل الصحراوية.
واستندت الدراسة إلى أرشيف غني يضم وثائق بيعة مكتوبة لقبائل وازنة مثل الرقيبات، تكنة، أيت لحسن، أزركيّين، وأولاد دليم، ومراسلات سلطانية تغطي فترات حكم المولى إسماعيل، والمولى عبد الرحمن، وصولا إلى الحسن الأول، تؤكد ممارسة السيادة الفعلية.
كما ضمت الدراسة شهادات استشراقية لكبار الأنثروبولوجيين والرحالة (مثل جاك بيرك، روبير مونتاني، وهنري تيراس) الذين رصدوا امتداد سلطة “المخزن” جنوبا.
وتخلص الورقة إلى نتيجة جوهرية مفادها أن البيعة في السياق الصحراوي كانت آلية لتنظيم العلاقات السياسية وضبط التوازن بين القبائل والسلطة المركزية، وليست مجرد ولاء روحي.
وتعزز هذه القراءة بشكل أكاديمي ما أقرت به محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 1975، حينما اعترفت بوجود “روابط ولاء قانونية” بين سلاطين المغرب وسكان الصحراء، مما يمنح السيادة المغربية شرعية تاريخية لا تقبل التجزئة.
الاستثناء المغربي.. حداثة بقلب تراثي
ةفي تحليلها لما أسمته “الاستثناء المغربي”، تشير الدراسة المنشورة في لندن إلى أن المغرب يقدم نموذجا نادرا في العالم الإسلامي، حيث نجح في صهر ثلاثة عناصر متناقضة ظاهريا في بوتقة واحدة؛ الإرث الفقهي الكلاسيكي، والأنثروبولوجيا القبلية، والحداثة الدستورية المعاصرة.
ويرى الباحثان المسكي والطريبق أن هذا المزيج جعل من إمارة المؤمنين سلطة مؤسِّسة (pouvoir constituant) تضمن وحدة الدولة الرمزية وتمنحها مرونة عالية للتكيف مع العصور الحديثة دون القطع مع جذورها.
وتنتهي الدراسة إلى خلاصة مفادها أن البيعة ليست “أثرا من الماضي” ينتمي للمتاحف، بل هي لغة سياسية حية ومتجددة، تُستخدم بذكاء لإعادة تعريف الدولة المغربية وضمان تماسك هويتها الوطنية.
وبذلك، تقدم هذه الورقة البحثية في “المجلة الدولية للبحوث العلمية” دعامة علمية رصينة للرواية المغربية بخصوص قضية الصحراء، ناقلة النقاش من أروقة الأمم المتحدة والقرارات السياسية إلى عمق التاريخ والفقه والأنثروبولوجيا، لتؤكد أن مغربية الصحراء ليست مطلبا سياسيا طارئا، بل حقيقة تاريخية موثقة بعقود البيعة التي لم تنقطع عبر الزمن.
المصدر:
العمق