تدخل المملكة المغربية مرحلة دقيقة ومفصلية في هندسة مقاربتها لتسوية النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، عبر الإعداد لتحيين مخطط الحكم الذاتي الذي تقدمت به سنة 2007، إذ يؤكد مهتمون أن الرباط لا تستعد لطرح ورقة جديدة على أنظار الأمم المتحدة بقدر ما تذهب برؤية دولة أعادت هندسة ذاتها ترابيا منذ سنوات؛ من مركزية تُمسك بكل الخيوط، إلى جهوية متقدمة تمنح القرار للميدان.
ويسجل المهتمون بتطورات قضية الصحراء المغربية، الذين تحدثوا لهسبريس في هذا الشأن، أن الدستور المغربي يوفر قاعدة صلبة لخلق توازنات دقيقة بين الاستقلالية الترابية ووحدة الدولة؛ وهو ما يمكن اعتباره أساسا قانونيا قادرا على استيعاب نموذج حكم ذاتي متطور، وهو ما يجعل من هذا التوجه امتدادا طبيعيا لمسار وطني قطعته الدولة المغربية من خلال إعادة بناء التدبير الإداري، وليس استثناء جغرافيا.
قال البراق شادي عبد السلام، محلل سياسي، إن “تحيين مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية يُشكل امتدادا عضويا ومُتسقا مع المسار التأسيسي للمملكة في مجال الإصلاح المؤسسي والترابي، والذي أرسى مبدأ اللامركزية الترابية كخيار استراتيجي وطني شامل، مُتوجا بنظام الجهوية المتقدمة الذي ورد في دستور 2011 والقانون التنظيمي رقم 111.14 الخاص بالجهات”.
وأضاف البراق، في تصريح لهسبريس، أن “هذا التحيين ليس انحرافا عن القاعدة؛ بل هو التعبير الأقصى والمُتطور لمبدأ التفريع والتدبير الحر، حيث تستمد الشرعية الإجرائية للمقترح من القدرة المُثبتة للدولة على تكييف بنيتها الإدارية لاستيعاب مستويات مُتعمقة من التدبير الذاتي في إطار الحكامة الجيدة، مُعززا ذلك بالشرعية المزدوجة للحكم التي ترتكز على البيعة لأمير المؤمنين كعقد أصلي وضامن أسمى للوحدة الوطنية بأبعادها المتعددة”.
وأوضح المحلل السياسي عينه أن “دستور 2011 يوفر قاعدة دستورية صلبة لتحقيق التوازن من خلال النص على الاستقلالية الإدارية للجهات مقابل التأكيد على الثوابت الجامعة، وعلى رأسها الوحدة الترابية؛ مما يسمح بتطبيق الجهوية المتميزة التي قد تمنح الأقاليم الجنوبية صلاحيات استثنائية ضمن نظام قانوني مُفصل، مع الحفاظ على الاختصاصات السيادية الحصرية للدولة، ليُقدم المقترح بذلك كمشروع وطني شامل ذي مصداقية تنفيذية وقانونية ودستورية، وليس مجرد تسوية سياسية معزولة”.
وشدد المتحدث ذاته على أن “التحولات الترابية والسياسية الداخلية تدعم مشروعية مقترح الحكم الذاتي عبر إثبات الملاءمة والقدرة على التنفيذ”، مبرزا أن “القواعد المؤسسية الحالية لا تشكل سقفا جامدا؛ بل هي أرضية صلبة تسمح بالتكييف اللازم لإدماج مبادرة الحكم الذاتي بشكل عضوي وناجع ضمن النظامين القانوني والمؤسساتي للدولة”.
وخلص البراق إلى أن “البيعة تلعب دورا محوريا وشرعيا في مشروع الحكم الذاتي، حيث تُشكل الضامن الأسمى للوحدة الترابية، وهي الأساس الروحي والتاريخي الذي يفرض على أي تفويض للصلاحيات أن يبقى تحت السيادة المطلقة للملك بصفته أميرا للمؤمنين ورمزا لوحدة الأمة؛ هذا المفهوم يمنح المقترح عمقا تعاقديا وتاريخيا داخليا، ويُقيد أي سلطة محلية تُمارَس في إطار الحكم الذاتي، مانعا بذلك تحول الاستقلالية الإدارية إلى نزعة انفصالية، ومؤكدا أن الحكم الذاتي هو تجل للإرادة الملكية والعهد المستمر مع سكان المنطقة”.
اعتبر سعيد بركنان، محلل سياسي، أن “وصول المغرب إلى مرحلة استصدار القرار الأخير من مجلس الأمن بإقرار السيادة المغربية على الصحراء واعتماد الحكم الذاتي كإطار للتفاوض في حل النزاع المفتعل، تم التدبير له من لدن المغرب على مراحل عديدة: المرحلة الأولى هي مرحلة التشاور الداخلي بين الملكية والأحزاب باعتبارها تمثل المواطنين، ومع أبناء جهة الصحراء الممثلين لسكان الجهة والقبائل الصحراوية، ثم بعد تقديم المقترح للأمم المتحدة تم تأسيس المرحلة الدستورية لتفعيل الجهوية الموسعة في تدبير القرار الإداري والاقتصادي كخطوة أولى نحو الانتقال في المرحلة الثالثة إلى تخصيص جهة الصحراء باستقلالية التدبير السياسي تحت السيادة المغربية”.
وأوضح بركنان، في حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن “تحيين المملكة المغربية لوثيقة الحكم الذاتي الخاصة بجهة الصحراء بعد صدور القرار الأممي سيكون نسخة جد متطورة لنموذج الجهوية المتقدمة التي تبناها المغرب دستوريا منذ دستور سنة 2011”.
وبيّن المحلل السياسي ذاته أن “الحكم الذاتي حسب النماذج المطبقة في التجارب العالمية يمكن أن يكون أقرب إلى الاستقلال الإداري والقانوني، كما يمكن أن يكون منه ما هو حكم ذاتي مبني على استقلال في القرار السياسي وكل ما يهم التدبير السياسي للجهة في إطار السقف السيادي للدولة، والنموذج الأخير هو ما دفع به المغرب منذ سنة 2007 كحل نهائي وجدي للنزاع المفتعل في جهة الصحراء المغربية”.
وتابع المتحدث عينه: “المغرب يتجه من نموذج التسيير الإداري المستقل للجهة إلى توسيع هذا المفهوم في جهة الصحراء لتتمتع بالاستقلال في التسيير السياسي والإداري والقانوني وتقوم بتدبير مصيرها الجهوي في إطار مقومات السيادة المغربية الواردة في مبادرة الحكم الذاتي المقدمة للأمم المتحدة”.
وأبرز بركنان أن “الحكم الذاتي ليس إلا تسييرا سياسيا مستقلا بالنسبة لجهة الصحراء، وهو نموذج متطور عن الاستقلالية الإدارية التي تم التأسيس لها دستوريا منذ 2011 وتم تطبيقها واقعيا في عدد من الجهات منذ عام 2015؛ بما فيها جهة الصحراء”.
المصدر:
هسبريس