بعد مرور ما يقارب نصف قرن على واحدة من أكثر الصفحات مأساوية في العلاقات المغربية-الجزائرية، عاد ملف المغاربة المهجّرين قسرا من الجزائر سنة 1975، أو ما يُعرف بـ”المسيرة الكحلا”، إلى واجهة النقاش من جديد، بعدما وجه المتضررون نداء مباشرا إلى الملك محمد السادس من أجل تبني قضيتهم رسميا وتصنيف ما تعرضوا له باعتباره “جريمة ضد الإنسانية” تستوجب تحريكا دبلوماسيا وقانونيا على المستوى الدولي، خاصة عقب التطورات الأخيرة المرتبطة بقرار مجلس الأمن حول الصحراء.
ويستند ضحايا هذا الملف، الذين يقدر عددهم بنحو 45 ألف أسرة مغربية كانت مستقرة لعقود داخل الجزائر، إلى ما يعتبرونه خرقا صارخا لحقوق الإنسان، بعدما تعرضوا في دجنبر 1975 لعملية طرد جماعي “مفاجئة وعنيفة”، رافقتها -وفق شهاداتهم- مصادرة ممتلكاتهم وإجبار الآلاف على مغادرة بيوتهم خلال ساعات معدودة، تاركين خلفهم أعمالهم واقتصادا عائليا استقر عبر أجيال.
وجاءت تلك المأساة في ذروة التوتر السياسي بين البلدين، عقب إعلان المغرب استرجاع أقاليمه الجنوبية عبر المسيرة الخضراء، وهو ما ردت عليه الجزائر بإطلاق ما أسماه ضحايا “المسيرة الكحلا”، في إشارة إلى مسيرة العودة القسرية على الحدود، التي خلفت جروحا اجتماعية ونفسية لا تزال مفتوحة حتى اليوم.
ويؤكد المتضررون أن تلك الأحداث لم تطو رغم مرور 50 سنة، إذ يعتبرون أن غياب معالجة سياسية أو إنسانية عادلة يجعل الملف جزءا من الذاكرة الجماعية المعلّقة، في وقت تتجدد فيه مطالبهم بإعادة الاعتبار، والكشف عن مصير المفقودين، وتعويض الأسر التي فقدت كل شيء “بين ليلة وضحاها”.
ويرى ناشطون في تنسيقيات الضحايا أن التطورات الإقليمية والدينامية الجديدة التي يعرفها ملف الصحراء تفتح نافذة لإحياء هذا الملف الإنساني، مؤكدين أن دفعه نحو المنتظم الدولي من شأنه “تصحيح ظلم تاريخي” وطي صفحة من النزاع السياسي بين البلدين بآليات العدالة الانتقالية لا بالمواجهة.
مناشدة إلى الملك
في هذا السياق، وجهت جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا التهجير القسري من الجزائر، مراسلة إلى الملك محمد السادس، تناشده فيها تبني الدولة لهذا الملف الإنساني الذي يهم آلاف المغاربة الذين طردوا من الجزائر سنة 1975 فيما، وذلك تزامنا مع مرور خمسين سنة على هذا الحدث الذي ما زال يشكّل جرحا مفتوحا في ذاكرة الضحايا.
المراسلة التي وجهها رئيس الجمعية، محمد العاطي الله، -تتوفر “العمق” على نسخة منها-، رفعت تهنئة إلى الملك باسم أعضاء الجمعية بمناسبة “النجاح الدبلوماسي التاريخي” لقرار مجلس الأمن رقم 2797، والذي نص على الاعتراف الدولي بمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية بوصفه الحل الواقعي والعملي لقضية الصحراء، وهو ما اعتبرته الجمعية ثمرة للدبلوماسية الملكية “الحكيمة والفعالة”.
وفي ظل هذا المنعطف التاريخي الحاسم، وفي ظل المساعي الدبلوماسية المرتقبة الرامية إلى تجاوز الخلافات بين البلدين الجزائر والمغرب، ناشدت الجمعية الملك محمد السادس بإصدار تعليماته لتبني ملف ضحايا “المسيرة الكحلا” بشكل رسمي، ليصبح الملف مطروحا على المستوى الوطني والدولي ضمن الأجندة الدبلوماسية الملكية.
وناشدت الهيئة ذاتها، الملك توجيه تعليماته إلى المؤسسة التشريعية والحكومة المغربية بفتح نقاش رسمي حول ملف القضية، وإصدار وثيقة رسمية مرجعية تدين الأفعال والجرائم التي ارتكبتها الدولة الجزائرية سنة 1975، لتكون سندا في الترافع والدفاع عن القضية، مع تتبع ومواكبة الملف، أمام المؤسسات والهيئات وفي المحافل والمنتديات الحقوقية الدولية.
كما التمست تسخير الآليات الدبلوماسية أو القانونية من أجل مطالبة الدولة الجزائرية بالاعتراف بهذه الجريمة، والعمل على الكشف عن مصير المختفين قسريا، وذلك كشرط أساسي لأي مصالحة شاملة ومستدامة بين الشعبين، وبناء مستقبل أخوي مشترك، مع العمل على تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، من خلال رد اعتبارهم، وإرجاع الحقوق والممتلكات المسلوبة أو التعويض عنها ماديا، وجبر ضررهم.
في هذا الصدد، طالبت المراسلة بحفظ وتوثيق الذاكرة الجماعية الإنسانية والتاريخية، والعمل على إدراج ملف قضية المغاربة ضحايا التهجير الجماعي القسري من الجزائر سنة ،1975 في المناهج التعليمية والذاكرة الوطنية الرسمية للمملكة، كرمز للوفاء والتضحية، وتخصيص يوم وطني لتخليد ذكرى التهجير القسري.
واستحضرت الجمعية في مراسلتها الخلفية التاريخية لأحداث سنة 1975، مذكرة بأن الطرد الجماعي الذي نفذته السلطات الجزائرية ضد عشرات الآلاف من المغاربة جاء “ردا انتقاميا قاسيا” على النجاح الباهر للمسيرة الخضراء في نونبر 1975، والتي شارك فيها 350 ألف مغربي واسترجع المغرب من خلالها أقاليمه الجنوبية دون إراقة دماء.
وأوضحت أنه تم تهجير هؤلاء المواطنين المغاربة قسرا بطريقة ممنهجة يوم عيد الأضحى من منازلهم، حيث سُلبت منهم حقوقهم وممتلكاتهم، وصودرت رواتب ومعاشات عمالهم بشكل مفاجئ، وقُطعت جذورهم الاجتماعية والثقافية، وتعرضوا للتنكيل والإهانة والترهيب والتجويع والعنصرية والمساومة، إلى جانب الاعتقالات وحالات الحجز التعسفي بمخافر الشرطة.
كما سجلت التشتيت الأسري الذي نتج عن فصل الأزواج المغاربة عن زوجاتهم الجزائريات وحرمانهن من أبنائهن بذريعة الجنسية، والعكس كذلك بالنسبة للزوجات المغربيات، لافتة إلى أن وجود حالات حالات اختفاء قسري للضحايا المغاربة أثناء الترحيل التعسفي نحو المغرب.
واعتبرت أن ما وقع يشكل “أحد أبرز الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها تاريخ المنطقة المغاربية، وتُصنف بناء على التكييف القانوني من خبراء دوليين وبحكم وقائعها، كـجريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم”.
وتعود أحداث “المسيرة الكحلا، إلى يوم 18 دجنبر 1975، حين نفذت السلطات الجزائرية عملية طرد جماعي غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، مستهدفة عشرات الآلاف من المغاربة المقيمين فوق التراب الجزائري منذ سنوات طويلة.
ورغم أن العديد من هؤلاء كانوا مستقرين هناك منذ عقود، ويمارسون أعمالهم في ظروف طبيعية، فإنهم استيقظوا في ذلك اليوم على قرارات مفاجئة تُجبرهم على مغادرة بيوتهم في ظرف ساعات معدودة، وتحت تهديدات واستجوابات وممارسات مهينة.
ففي عيد الأضحى، قامت الجزائر بإجلاء الأسر المغربية قسرا من منازلها، ومصادرة ممتلكاتها وأجورها ومعاشاتها، كما جرى اعتقال عدد من الأشخاص بشكل تعسفي.
ولم يقتصر الأمر على الطرد فقط، بل عرفت العملية حالات مأساوية تمثلت في تفريق العائلات المختلطة، حيث فُصل الأزواج المغاربة عن زوجاتهم الجزائريات وحرمانهم من أطفالهم، والعكس كذلك، بحجة اختلاف الجنسية.
وتشير شهادات الضحايا والوثائق الحقوقية إلى أن عملية الطرد شابها عنف نفسي ومادي كبير، فقد نقل المطرودون في شاحنات وحافلات نحو الحدود المغربية الشرقية، وترك كثيرون منهم بلا وثائق أو ممتلكات.
كما سجلت حالات اختفاء قسري رافقت هذه العملية التي طالت ما يناهز 350 ألف مغربي بحسب بعض التقديرات، ما يجعلها واحدة من أضخم عمليات التهجير القسري في تاريخ شمال إفريقيا.
المصدر:
العمق