كشف أمين السعيد، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن الدولة المغربية في عهد الملك محمد السادس أصبحت وفية لعقيدة المشاركة الواسعة، المبنية على الانتقال من التسيير المركزي المغلق إلى تدبير منفتح يقوم على التعددية وإشراك مختلف المواطنين والفاعلين في بناء وصياغة الإطار العام للقضايا الكبرى.
وأوضح السعيد في تصريح خص به جريدة “العمق”، أن هذه المقاربة لم تعد استثناء بل تحولت إلى نهج ثابت يتجسد في الأوراش والإصلاحات الكبرى التي بصمت عهد الملك محمد السادس، انطلاقا من مدونة الأسرة ووصولا إلى ملف الحكم الذاتي بالصحراء المغربية، مرورا بالجهوية المتقدمة والإصلاح الدستوري لسنة 2011 والنموذج التنموي الجديد.
وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن هذه العقيدة الجديدة، القائمة على مسار تشاركي واسع، تجسدت بوضوح في إصلاح مدونة الأسرة، سواء في نسخته الأولى سنة 2004 أو من خلال التوجيه الملكي الصادر عام 2023 بخصوص الهيئة المكلفة بمراجعته، والذي أصدر تعليماته بإعمال المقاربة التشاركية والتشاورية.
وذكر بالنقاش العمومي الواسع الذي برز في سنة 2010 بشأن إصلاح الجهوية، حيث نظمت اللجنة الاستشارية للجهوية آنذاك سلسلة من اللقاءات التشاورية المكثفة مع مختلف الفاعلين من أحزاب سياسية ونقابات مهنية وجمعيات المجتمع المدني والغرف المهنية والجامعات، وهو ما عكس وفقا له حرص المؤسسة الملكية على إشراك كل القوى الحية في بناء مشروع الجهوية.
وأكد المصدر ذاته أن النموذج السياسي للمقاربة التشاركية ترسخ بقوة أكبر في دينامية 2011، التي تزامنت مع سياق سياسي إقليمي مضطرب ومقلق عرف إعلاميا بـ “الربيع العربي”. وأوضح أن الدولة المغربية برزت في تلك المرحلة كحالة “ناضجة” تحمل على عاتقها تجارب الإنصاف والمصالحة التي سبقت تلك السنة، وقد تجلى هذا النضج في تجاوبها المبكر وإشراكها الواسع في منهجية عمل اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور.
وتابع السعيد أن تلك المنهجية، التي اعتبرت حينها جديدة نسبيا في المغرب، قدمت نموذجا مغايرا لبعض الدول التي انتخبت جمعيات تأسيسية، كمصر وتونس، مشيرا إلى أن تلك الجمعيات غالبا ما أنتجت دساتير تستند إلى منطق الأغلبية، وليس إلى منطق التعدد والتشارك التوافقي الذي لا يستبعد مختلف الفرقاء.
وأبرز أستاذ القانون الدستوري أنه بعد أن أصبحت الديمقراطية والمواطنة التشاركية من المرتكزات الأساسية للنظام الدستوري المغربي، انتقلت المقاربة التشاركية لتشمل السياسات الكبرى للدولة، حيث تم توسيع قاعدة الإشراك والتشاور لتشمل ملفات استراتيجية. وتجسد ذلك، حسب المصدر، من خلال عمل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، وكذلك من خلال البعد المحلي التشاركي الذي طبع تفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وخصوصا خلال العقد الأخير من تفعيلها.
وشدد المصدر على أن إعمال المقاربة التشاركية والتشاورية الواسعة بخصوص ملف نظام الحكم الذاتي لم يولد فعليا مع بلاغ الديوان الملكي الأخير، الذي أعلن عن اجتماع مستشاري الملك مع زعماء الأحزاب الوطنية بحضور وزيري الداخلية والخارجية.
وأوضح أن نواته الأولى برزت في أوائل سنة 2006، حينما قررت الدولة نزع السرية عن موضوع الصحراء المغربية، وهي المرحلة التي شهدت رفع العديد من المذكرات الحزبية بخصوص نظام الحكم الذاتي، وتوسع النقاش ليشمل عددا كبيرا من جمعيات المجتمع المدني.
وأضاف أن هذا الانفتاح تجذر ليشمل المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، الذي حرص على تفعيل مرجعيات الخطاب الملكي الملقى بمدينة العيون بتاريخ 25 مارس 2006، والذي انتصر للقوة الاقتراحية الجماعية.
واعتبر أمين السعيد أن أهمية المقاربة التشاركية بخصوص نظام الحكم الذاتي تظهر في كون المغرب يقدم من خلالها رسائل مسؤولة إلى المنتظم الدولي وإلى الأطراف المعنية بهذا النزاع المفتعل.
وأفاد بأن المغرب يثبت أنه ملتزم بالوفاء بتعهداته، وفي مقدمتها تطبيق بنود المبادرة التي قدمها سنة 2007، حيث إن مسار الموافقة على الحكم الذاتي سيكون موضوع تفاوض، ويطرح على السكان المعنيين بموجب استفتاء حر في إطار استشارة ديمقراطية.
واستنتج أن توسيع دائرة التشاور بخصوص هذا الملف يحافظ على الإجماع الوطني ويعزز الشرعية لدى الخارج عبر تقديم مؤشر رسمي يعبر عن الالتزام بحسن نية بمخرجات مسار التسوية.
وخلص المصدر إلى أن مسار التشاور والمشاركة بخصوص نظام الحكم الذاتي مهيأ مستقبلا للتوسع ليشمل مختلف الأطراف الرئيسة المعنية بالنزاع، متوقعا أن تتعمق النقاشات لتشمل القضايا الجوهرية المتعلقة بالصلاحيات والعلاقة الدستورية لهندسة السلط بين المركز ومنطقة الحكم الذاتي، فضلا عن الموارد والرقابة القضائية، وهي قضايا طرحت في تجارب مقارنة ناجحة.
وختم بالتأكيد على أن توسيع النقاش والحوار الجماعي بشأن الحكم الذاتي يعد مؤشرا ديمقراطيا لتقديم إجابات عن الأسئلة والمطالب والشكوك التي قد تطرحها أطراف النزاع، ويمكن أن يخترق سقف النقاش المطروح دوليا مما يعزز فرص قبوله من قبل المنتظم الدولي.
المصدر:
العمق