شدد حسن رشيق، الأنثروبولوجي المغربي البارز عضو أكاديمية المملكة المغربية، على أن النقاش في التطبيب حين يتم النظر إليه من منظور الإنسان المحلي “يهدف بالضرورة إلى فهم نمط آخر من التفكير موجود بقوة يُسمّى ‘اللاعقلاني'”، موردا أنه “عندما يواجه الطبيب أو الباحث تفسيرات تختلف عن تفسيراتهم، فكيف يمكن فهمها بالاستناد إلى البيئة الثقافية للمريض؟”.
رشيق دافع خلال مشاركته في الملتقى المغربي-الفرنسي للصحة حول “أخلاقيات الطب وعلم الأحياء في الصميم الإنساني.. بين العلم والضمير”، اليوم الثلاثاء، على ضرورة الإصغاء إلى الوعي المحلي، معتبرا أن “فكرته هي ببساطة دعوة إلى الانتباه إلى هذا النوع من أنماط التفكير وفهمه، لأن هذا النمط لا يزال حاضرا بقوة إلى اليوم”، ووضح في تصريح لهسبريس أن “التعبير عن المرض بربطه بالجن وغير ذلك مازال شائعا”.
وأشار الأنثروبولوجي المغربي ضمن مداخلته الموسومة بـ”من وجهة نظر المريض: المرض بوصفه نسقا ثقافيا”، إلى أهمية توفر “معرفة كافية بالبيئة الثقافية للشخص المريض”، خصوصا وأن “تفسير الأمراض عبر الجنّ هو أكثر تعقيدا بكثير؛ فهناك تدرج في أنواع الأمراض، وأغلب المغاربة يعرفون ذلك إلى حدٍّ ما، فيمكن للمريض أن يكون مسكونا، وبحسب هذه الدرجات، يكون الاتصال بالمقدّس جسديا أو غير جسدي”.
وشرح الأكاديمي المغربي أن “الناس في كثير من المناطق يعتبرون الجن بمثابة كائنات أخرى، أي عالما مغايرا، ولذلك يوجد الكثير من الألفاظ المستعملة ككنايات للإشارة إلى الجنّ”. وبالنسبة للأنثروبولوجي، فهذه التوصيفات هي مفاتيح ونوافذ؛ فمن دونها لا يمكن وصف أي شيء، لكن ما “هو أكثر إثارة للاهتمام هو أنه عندما يتحدث الناس عن الجنّ، أو عن الله، أو عن القدر، فإنهم يضعون المرض خارج المجتمع، بينما عندما يتحدثون عن السحر الأسود أو العين الشريرة، فهم يضعونه داخل المجتمع، أي ضمن نوايا البشر”.
من جانبها، ركزت رجاء العواد، عضو أكاديمية الحسن الثانية للعلوم والتقنيات، على بنيات اللاعدالة في المنظومات الصحية، مسجلة أنها في العادة تكون “ناجمة عن محددات متعددة، تتطلب في المقابل اتباع مقاربات متعددة الأبعاد ومسترشدة بالاعتبارات الأخلاقية”، مشددة على أن “المجتمعات قاطبة مدعوّة للتحرك بشكل جماعي للحد من هذه الفجوات وضمان صحة أكثر عدلا وإنصافا للجميع”.
وأوردت العواد، ضمن مداخلتها المتعلقة بـ”اللاعدالة في مجال الصحة: المحددات، والمقاربات متعددة الأبعاد، والانعكاسات الأخلاقية”، أن “تعزيز الإنصاف في الصحة يعني الدفاع عن الكرامة الإنسانية ومكافحة الوصم، وكذا تعزيز التضامن، والاعتراف بأنّ الصحة ليست امتيازا، بل هي خيرٌ مشترك يستدعي المسؤولية الجماعية لصنّاع القرار، والمؤسسات، والمجتمع بأسره، من خلال سياسات شاملة تُسهم في تحقيق العدالة الصحية”.
وقالت الأكاديمية المغربية إن “هذه البنية غير العادلة منشؤها بالضرورة اجتماعي، كما تعدّ في المقام الأول قضية أخلاقية”، مضيفة أنها “تعبّر عن انتهاك للمبدأ الأساسي للعدالة الاجتماعية، ولحق كل إنسان في التمتّع بأفضل حالة صحية ممكنة، أي مبدأ تكافؤ الفرص”، وتابعت: “تُلزمنا أخلاقيات الصحة العامة بطرح التساؤلات حول الأنظمة والسياسات والممارسات التي تُنتج أو تُكرّس هذه الفوارق بين الفئات الاجتماعية”.
وتطرقت الأكاديمية نفسها إلى أهمية المشاركة المجتمعية والمساهمة الاجتماعية والتمكين، مؤكدة ضرورة أن يتمكّن الأفراد والمجتمعات من بناء محدداتهم الخاصة للصحة، والمشاركة الفاعلة في صياغة السياسات الصحية، بما يضمن استدامة العمل الصحي، مشددة على أن تعزيز الشفافية يشكل عاملا أساسيا في تحسين مساءلة الحكومات والحد من الفساد وسوء إدارة الموارد.
وأوضحت رجاء العواد، خلال هذا الملتقى المنظم من لدن أكاديمية المملكة المغربية بتعاون مع أكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات والأكاديمية الوطنية للطب بفرنسا ومؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة، أن “الانخراط المجتمعي يمكنه التركيز أيضا على تحسين شبكة العلاقات بين العاملين في القطاع الصحي وعلى كيفية تصميم وتقديم الخدمات الصحية، بدلا من الاكتفاء بالنظر إلى طبيعة الخدمات المقدّمة”.
أما الأكاديمية والباحثة نزهة جسوس، فناقشت في مداخلتها التي تم تقديمها بالنيابة عنها، المتمحورة حول ‘مبادئ الحيطة والبحث العلمي في الصحة’، كيف ساهمت العلوم والتقنيات الحديثة في تقليل بعض المخاطر الأكثر تهديدا للإنسان، وكيف ساهمت كذلك في خلق تهديدات جديدة، مسجلة أن هذه العلوم والتقنيات تظل محدودة فيما يتعلق بالتنبؤ ببعض المخاطر كما يتضح من جائحة “كوفيد-19”.
وحسب ملخص المداخلة، فقد تمت الإشارة أيضا إلى بروتوكولات تطوير وتقييم العلاجات المكوَّنة من مراحل، التي تتجاوب مع هذا القلق، دون استبعاد المخاطر التي قد تظهر لاحقا بسبب الشكوك العلمية، مشيرة إلى أن تاريخ الطب يزخر بالعديد من الأمثلة على ذلك.
ووفق الملخص ذاته، فإن مبدأ الحيطة يكمن في اتباع نهج استباقي لتقييم المخاطر خلال البحث أو بعده، ولحكم مدى قبولها بالنسبة للفوائد المتوقعة، ويتضمن ذلك توقع حدوث المخاطر حتى وإن لم تُثبت بعد، من خلال تحديد الإجراءات التي تقللها أو تحيدها مسبقا، والقدرة على إدارتها بطريقة أخلاقية ومسؤولة إذا وقعت.
وحسب برنامج الملتقى، فإن مداخلة جسوس تبرز كيف أن “هذا المبدأ قد يؤدي أحيانا إلى إبطاء بعض الأبحاث باسم المخاطر غير المؤكدة، وهو ما يجعل مراعاة مبدأ التناسب أمرا أساسيا”، مشددة على “أهمية توسيع نطاق تطبيق مبدأ الحيطة مع تزايد تطور واستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الصحة، لمواجهة الصور النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي، التي قد تؤثر على البيانات التي تغذي هذه الأنظمة”.
المصدر:
هسبريس