أياد ناعمة تحمل قسوة غير متوقعة؛ في مجتمع اعتاد رؤية الرجل فاعلا لا مفعولا به، تبرز اليوم ظاهرة العنف ضد الأزواج على يد الزوجات لتكسر القوالب النمطية، محولة البيت من فضاء للتضامن إلى ساحة صراع رمزي، تحت مسمى “العنف الوردي” أو “العنف بتاء التأنيث”.
وإذا كان الخطاب حول العنف ضد النساء قد احتل حيزا كبيرا في الأدبيات الحقوقية والإعلامية، فإن الحديث عن “العنف بتاء التأنيث”، أي العنف الممارس من قبل النساء ضد أزواجهن، بقي محجوبا تحت وطأة المسكوت عنه والموصوم بالعار، إذ يحاط تعنيف الزوجات لأزواجهن غالبا بستار كثيف من الكتمان؛ فالظاهرة تسائل مفهوم الرجولة والأنوثة في المجتمع المغربي، وتكشف وجهًا مغايرا من وجوه العنف الأسري المسكوت عنه، حيث يختار الضحية الصمت اتقاء السخرية أو حفاظا على صورة “الرجل القوي” في مجتمعٍ لا يرحم ضعف الذكور ولا يعترف بآلامهم.
خلف الأبواب المغلقة ووسط بيوت كان يُفترض أن تكون ملاذا للسكينة، تتعالى صرخات ذكورية مكتومة، تُخنق تحت وطأة الخوف والعار. تتعدد القصص وتتشابك التفاصيل بين إهانةٍ جسديةٍ قاسية، وابتزاز عاطفيٍ أو عنف رمزي ينهش الكرامة وراء أسوار بيت الزوجية.
قال الدكتور كمال الزمراوي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة القاضي عياض بمراكش، إنه في ظل التحولات القيمية المتسارعة التي تشهدها المجتمعات، لم يعد الحديث عن العنف الأسري مقتصرا على الرجل كفاعل والمرأة كضحية.
وأضاف الزمراوي، في تصريح لهسبريس، أن ظاهرة تعنيف الزوجة لزوجها محاطة بجدار من الصمت والإنكار الاجتماعي؛ مما يجعل من الزوج الضحية يعيش بين عنف السخرية الاجتماعية وقوة الرغبة في الحفاظ على صورة الرجولة، ولا سيما في المجتمعات العربية ومنها المجتمع المغربي. ولهذا، يتردد كثير من الرجال في الإبلاغ عن تعرضهم للعنف.
وأوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي أن العنف الأسري يتخذ أشكالا متعددة، ولا يقتصر على الجانب الجسدي فقد يكون لفظيا أو نفسيا أو اقتصاديا أو عاطفيًا أو حتى جنسيا، ويتجلى ذلك في صورٍ مختلفة؛ من قبيل الإهانة في الفضاء العام، أو التحـقير أمام الأبناء والأقارب، أو الحرمان من الدعم العاطفي والمادي، أو منع الزوج من رؤية أطفاله، أو الامتناع عن المعاشرة الزوجية.
وأبرز الزمراوي أن هذه السلوكات تخلّ بتوازن الزوج نفسيا ومهنيا؛ ما يهدد استقرار الأسرة بأكملها.
من منظور نفسي، أضاف المتحدث عينه، تُظهر بعض الدراسات أن حالات تعنيف الزوجات لأزواجهن قد تنشأ أحيانا عن اضطرابات في الشخصية أو عن تراكمات نفسية سابقة.
وأورد المتخصص في علم النفس الاجتماعي أن المرأة التي تنشأ في بيئة يسودها العنف قد تطوّر تصورا مشوّها للعلاقات الإنسانية، يدفعها إلى ممارسة السيطرة كرد فعل على ما تعرضت له في الماضي. وفي حالات أخرى، قد يُعدّ العنف وسيلة للتعويض عن شعور بالنقص أو الإحباط، خاصة لدى من يعانين من ضغوط اقتصادية أو مهنية، أو ممن يشعرن بعدم تقدير أزواجهن لما يبذلنه من جهود داخل الأسرة.
وذكر المتحدث أن التحولات في الأدوار الاجتماعية بين الجنسين، نتيجة صعود المرأة إلى سوق العمل واستقلالها المالي، أدت أحيانا إلى اضطراب في ميزان السلطة داخل الأسرة؛ مما يخلق توترا يتحول أحيانا إلى عنف متبادل.
وشدد المصدر ذاته على أن أي حل لتجاوز حدة هذا العنف الأسري يقتضي الاستناد على مداخل معالجة متعددة؛ منها ما يتعلق بالعلاج النفسي الفردي للزوجة التي تمارس العنف من خلال فهم وتفسير جذور هذا العنف، ومنها ما يتعلق بالعلاج الأسري من خلال جلسات يحضر فيها الزوجان يشرف عليها مختصون في مجال علم النفس الاكلينيكي والأسري، وكذلك تعزيز التوعية المجتمعية وتفعيل ألية إنشاء مراكز الإرشاد الأسري، ناهيك على المدخل القانوني من خلال سن قوانين تحمي كل الأطراف من العنف الأسري.
انطلق الدكتور محمد شرايمي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، في تحليله للظاهرة، من فرضية مفادها أن حالات العنف الموجه من الزوجات ضد الأزواج أو العنف المتبادل هي حالات موجودة وغير قليلة؛ لكنها تظل ظاهرة خفية بسبب عوامل اجتماعية وثقافية (كالعار المرتبط بفقدان هيبة الرجل)، وإطار قانوني يبدو وكأنه يجسد المرأة كضحية وحيدة.
واستحضر شرايمي، في تصريح لجريدة هسبريس الالكترونية، جملة من الأمثال الشعبية المغربية التي توثق صورة نمطية للمرأة ككائن متحيز بالمكر والقدرة على العنف الرمزي، حيث تحفل الذاكرة الجمعية بتعبيرات مثل “كيد النساء أقوى من كيد الشيطان” و”استعن بالله من صمت المرأة التي تدبر خطتها في الخفاء”، مبرزا أن هذه الصورة تصور المرأة قادرة على توظيف الذكاء والعنف غير المباشر لتحقيق مآربها.
كما يتجسد هذا التصوير، وفق الأكاديمي المغربي نفسه، في أمثال أخرى تحذر من التعامل مع المرأة، مثل: “ديرها فالراجل وترجاها وديرها فالمرأة ولا تنساها”، مما يعكس ثقافة شك وحذر مستمر إزاء ما ينسب إليها من قدرة على الاحتفاظ بالضغينة واستخدام المكر. كما تصور المرأة في بعض الأمثال “بحال الأفعى الكرطيطة”، في إشارة إلى خبثها وشراستها غير المتوقعة، خاصة عندما تشعر بالتهديد أو الضعف؛ زيادة على ما يروى عن رغبتها في السيطرة على الزوج من خلال السحر والشعوذة وغيرها.
وشدد على أن هذه التمثلات لا تبرر العنف، وإنما تكشف عن جذور ثقافية عميقة في المخيال الجمعي تصور المرأة كطرف قادر على ممارسة القوة بأساليب رمزية ونفسية؛ وهو ما يعد مدخلا مهما لفهم بعض أشكال التوتر في العلاقات الأسرية ضمن سياقها المجتمعي.
وقال شرايمي إن بعض الممارسات يمكن فهمها من منظور سوسيولوجي كأشكال من العنف الرمزي، أي استعمال وسائل غير مباشرة مثل الكلام والمشاعر والمواقف لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة أو مقاومتها داخل الحقل الأسري، موردا أن لجوء بعض الزوجات للعنف يمكن تفسيره من زاويتين: الأولى كآلية للهيمنة، في إطار سعي إلى إعادة توزيع السلطة داخل الأسرة، مستفيدات من التحولات الاقتصادية والثقافية التي منحت المرأة موقع الند. أما الثانية، كاستراتيجية للمقاومة، أي كرد فعل على عنف أو إهمال سابق، أو كتعبير عن غضب مكبوت في غياب قنوات تواصل سليمة، فيتحول العنف إلى لغة احتجاج على نظام ذكوري لم يعد قادراً على فرض هيمنته المطلقة.
وأوضح المتحدث أن الثقافة السائدة ما زالت تربط الرجولة بالقوة والسيطرة؛ مما يجعل الرجل المعنَّف يُنظر إليه كفاقد لمكانته الرمزية، فيختار الصمت خوفًا من السخرية أو المساس بهيبته. ونتيجة لذلك، تبقى الظاهرة مقموعة إحصائيًا، ولا تجد انعكاسها الكافي في التقارير الرسمية، ما يصعب تقدير حجمها الحقيقي ووضع سياسات فعالة للتعامل معها.
سجل الدكتور شرايمي أن عوامل خارجية متعددة ساهمت في خلق بيئة خصبة لانتشار هذه الأشكال من العنف؛ من بينها الأزمة الاقتصادية والبطالة في صفوف الرجال، مما أضعف صورة “المعيل”، إضافة إلى بعض الخطابات الإعلامية ومحتويات مواقع التواصل التي تحث الزوجة، ولو ضمنيًا، على التمرد غير البنّاء ورفض “التساهل مع الرجولة”.
وأضاف شرايمي أن الإعلام يشكل فضاءً محورياً لإعادة إنتاج التمثلات الاجتماعية حول الرجولة والأنوثة، حيث تقدَّم المرأة في صورتين متناقضتين إما ضحية ضعيفة تستدر التعاطف، أو امرأة ماكرة تهيمن على الرجل بالعاطفة أو الحيلة أو حتى العنف.
وأشار أستاذ علم الاجتماع إلى أن بعض الجمعيات النسائية التي تتبنى خطابات تميل إلى دعم المرأة “ظالمة كانت أم مظلومة”؛ ما يمنحها في بعض الأحيان شبه شرعية لسلوكياتها العنيفة، بغض النظر عن السياق والمسؤولية الفردية.
وأكد المتحدث أن “العنف بتاء التأنيث” يعكس مرحلة انتقالية يعيشها المجتمع المغربي، تعبّر عن أزمة هوية جندرية وتحول في موازين السلطة الرمزية داخل الأسرة، في ظل غياب منظومة قيمية جديدة تعيد التوازن بين أدوار الجنسين بعد تراجع النظام الأبوي التقليدي وبروز قيم تشجع على التمرد على الأدوار القديمة.
واختتم شرايمي تصريحه موضحا أن العنف الأنثوي لا يُفهم كسلوك منحرف عن الأدوار التقليدية فحسب، بل كآلية رمزية للتمرد على القيود الثقافية التي حصرت المرأة في أدوار الطاعة واللين، ليصبح أحيانا وسيلة للتعبير عن الذات واستعادة التوازن داخل علاقات السلطة الأسرية والمجتمعية.
وأكد أن المقاربة السوسيولوجية تقتضي تجاوز القراءة الأخلاقية الضيقة، سواء عبر شيطنة المرأة أو تبرير العنف، نحو فهم الظاهرة كبنية اجتماعية معقدة؛ فالمجتمع المغربي يعيش، اليوم، مرحلة انتقال قيمية بين نظام تقليدي فقد فاعليته وآخر جديد لم يستقر بعد على أسس المساواة والاحترام المتبادل.
المصدر:
هسبريس