آخر الأخبار

محو الأمية وسؤال العزوف عن القراءة .. أمّة تلتقط الصور مع الكتب

شارك

بعد قراءة تقريرين متفائلين حول “برامج محو الأمية” و”مشاريع تشجيع القراءة”، وجدتني أتساءل لا عن الأرقام المُعْلَنة، وإنما عن المعاني الغائبة. هل يكفي أن يعرف المواطن الحروف ليصبح قارئاً؟ وهل يكفي أن يفتح كتاباً ليتحرر من الجهل؟ أيُّ أمّية نحارب حقاً، وأيّ قراءة نزرع في أرضٍ لم تتعلم بعدُ أن تُصغي؟ هل نعلّم الناس الكتابة كي يوقعوا حضورهم في الحياة، أم كيْ يوقّعوا فقط في لوائح الإحصاء؟ ما الفرق بين من لا يعرف القراءة ومن يقرأ دون أن يفهم، بين من يجهل الحروف ومن يحفظها ليكتب بها صمته؟ كل التقارير تتحدث عن “نسب النجاح”، ولا أحد يسأل عن نوع الوعي الذي يُنتَجُ من هذه النسب. نعلن أننا نُقلّص الأمية، لكننا نوسّع من دائرة “اللاَّقراءة”. نحتفي ببرامج “القراءة للجميع”، بينما الجميع مشغول بما هو أسرع من صفحة كتاب. ما الذي نريده من المواطن؟ أن يقرأ أم أن يبدوَ وكأنه يقرأ؟ أن يفهم أم أن يتقن إعادة ما قيل له؟

ربما نحن لا نحارب الأمية بقدر ما ندير شؤونها بلغة رسمية. وربما لا نشجع على القراءة بقدر ما نحتفل بها كطقس موسمي يليق بالكاميرات. فهل يمكن لأمةٍ أن تُحبّ القراءة وهي تخاف من السؤال؟ وهل يمكن أن تُهزم الأمية ونحن نربّيها يومياً في مدارسنا، نطعمها المناهج الجافة ونغطيها بتقارير النجاح؟ لا تُطرح هذه الأسئلة في الاجتماعات التربوية، لأنها مُحرجة أكثر من الأمية نفسها. ومع ذلك، فهي وحدها القادرة على فتح أعيننا على المفارقة الكبرى: إننا نحارب الجهل بالأوراق، وننشره بالكلمات.

محاربة الأمية… بالتقارير

يبدو أننا أمة تحب محاربة الأمية أكثر مما تحب محاربة أسْبابها. نحاربها كما نحارب البَعُوض: نرشه بخطابات رسمية ثم ننام مطمئنين إلى أننا أدّيْنا واجبنا الوطني. نرفع شعارات “محو الأمية” في المؤتمرات، ونكتب عنها بلغة منمّقة، لكننا ننسى أن محو الأمية لا يعني سوى محو الحروف من الورق، لا الجهل من العقول؛ نتعامل مع الأمية كما نتعامل مع مرض مُزمن نحبّ أن نُعلنه أكثر مما نُحبّ أن نعالجهُ.

لذلك، غالبا ما نخلط بين أن يعرف المواطن الحروف وأن يفكر بها. نعم؛ نعلّم الناس كيف يقرؤون “الاسم” في البطاقة الوطنية، لكننا لا نعلّمهم كيف يقرؤون ما وراءها، نمنحهم قدرة على الكتابة لا على الوعْي. ولذلك، صار بيننا ملايين يعرفون كيف يكتبون جملة، ولا أحد يعرف كيف يكتبُ فكرة.

وعلى هذا، تُدار برامج محاربة الأمية كما تُدار حفلات الافتتاح: تبدأ بالتصفيق وتنتهي بالتقارير. نحصي الأرقام لا التحولات، نتابع عدد المسجلين لا عدد المستنيرين. في نهاية كل عام، يخرج مسؤول ما ليُعلن بفخر أن نسبة الأمية تراجعت، بينما الأمية الفكرية تتكاثر في صمت؛ فما جدوى أن يتعلم الإنسان الأبجدية إذا كان سيستخدمها لكتابة جهل جديد بلغة صحيحة؟

نحارب الأمية وكأنها خصم خارجي، بينما هي صنيعتُنا الأليفة؛ نغذّيها حين نُحوّل التعليم إلى حفظ، ونرعاها حين نقتل السؤال في المدارس، ونقنِّنها حين نعتبر التفكير” خروجاً عن النص”. لا تبدأ محاربة الأمية في الفصول الليلية، وإنما في الصباح حين يدخل التلميذ إلى مدرسة تعلمه أن الطاعة أهمُّ من الفَهم.

حتى الخطاب حول الأمية يعاني من أمّيةٍ أخرى، أكثر خفاءً ودهاءً: أمّيةٍ لغوية وفكرية في آن. نتحدث عن “تمكين المرأة من التعلم” كما لو أن المعرفة امتياز يُمنح، لا حقّ يُولد به الإنسان. نُطلق الحملات التلفزيونية لتمجيد القلم، بينما لا نوفر كتاباً واحداً جديراً بالقراءة. نحارب الأمية بوسائل تولّدها، ونحتفل بالنجاح حين يُحسن الناس كتابة أسمائهم، غير مدركين أن المأساة ليست في نسيان الحروف، وإنما هي كامنة في نسيان المعنى الكامن وراء الاسم نفسه.

لا تُقاسُ الأميّة الحقيقية اليوم بعدد الأميين، وإنما بعدد الذين لا يفكّرون. فما أكثر الذين يقرأون دون أن يفهموا، ويملكون شهادات عليا دون أن يسألوا سؤالاً واحداً في حياتهم. لقد صارت الأمية مؤسسة فكرية قائمة بذاتها، تتغذى من التعليم نفسه، وتعيش في صلب الجامعات والمعاهد كما تعيش في القرى النائية.

محاربة الأمية مشروع حضاري من أجل أن يعود الإنسان إلى نفسه، أن يفكر بلغته، أن يحلم دون إذْن. لكنها في عالمنا العربي تحوّلت إلى ملف إداري ضمن ملفات “التنمية البشرية”، تُعرض أرقامها في المؤتمرات كما تُعرض نسب البطالة، وتُنسى بعدها كما يُنسى الدرس الأول في كل حصة للغة العربية. لن ننتصر على الأمية ما دمنا نعامل القراءة باعتبارها رفاهية، والتعليم بوصفه وسيلة للتوظيف، والمعرفة ترفا أكاديميا. لن ننتصر عليها إلا حين يصبح السؤال عادة، والكتاب خبزاً، والدرس تجربة حياة. عندها فقط، لن نحتاج إلى محاربة الأمية، لأنها ستغادرنا خجلاً كما يغادر الليل حين يكتشف أن الشمس قد طلعت بالفعل.

أمّة تلتقطُ الصُّور معَ الكُتب

لعلّ السؤال عن عزوفنا عن القراءة لم يعد سؤالاً معرفياً بريئاً، وإنما غدا اعترافاً صريحاً بمأساة ثقافية تُدار بمهارة تحت شعارٍ مطمئن: “نحن نحب المعرفة، لكننا لا نطيق قراءة الكتب،” نحن أمة تُقيم المعارض الدولية للكتاب كما تُقيم المهرجانات، وتلتقط الصور أمام رفوفٍ أنيقةٍ من العناوين كما لو كانت أمام مشهدٍ سياحي، ثم تعود لتنام قريرة العين، واثقةً من أن القراءة، لحسن الحظ، ما تزال حيّة… في الشعارات. ما نطالعه حقاً لا يتجاوز العناوين البراقة، وما نحفظه لا يتعدّى الغلاف، وما نفهمه ينحصر غالباً في ملامح الكاتب على الغلاف الخارجي.

يُقال إن القراءة فعل تحرُّر، ونحن – للأسف – لا نحب التحرر كثيراً. لم نعلّم تلميذَنا أن القراءة مغامرة فكرية، ولا أنها تجربة حياة تتجاوز حدود الورق، وإنما أقنعناه بأنها واجب مدرسي يُؤدَّى كما تُؤدَّى الطقوس. ولهذا، حين يُطلب منه أن يقرأ نصاً أدبياً، يتعامل معه كما يتعامل مع وصفة دواء: يبتلعه على عجل ليتخلّص من مَرارته، لا ليتذوق معناه.

في المدرسة، تُقدَّم القراءة في طبق بارد من الملل، وكأنها مجرد طقس روتيني بلا روح. النصوص التي تُختار للتلاميذ أقرب إلى البيانات الرسمية منها إلى نبض الحياة. المعلم يشرح، والتلميذ يدوّن، وكلاهما يخرج من الحصة كما دخلها: لم يقرأ أحد شيئاً في الحقيقة، وإنما تم أداء طقس تربوي متقن يُسمّى “قراءة النص”. وحين يُسأل أحدهم عن سبب عزوف التلاميذ عن القراءة، تأتي الإجابة الرسمية في صورة خطاب تقويمي جليل: “لأنهم لا يحبون القراءة”… وكفى. مشكلتنا أعمق من مجرد عادة مفقودة؛ نحن نُلقّن أبناءنا منذ الصغر أن القراءة تعبٌ، وأنها ليست رحلة ممتعة لأنها طريق شاق نحوَ الامتحان. ولذلك، حين يكبرون، يهربون منها كما يهرب المرء من الواجب الوطني في يوم عطلة. التلميذ لا يجد في الكتاب صديقاً يُواسيه أو يوسّع رؤيته، وإنما خصماً صارماً، لأن المدرسة لم تزرع فيه حب السؤال، بقدر ما زرعت فيه الخوف من الخطأ والخضوع للنصوص الجامدة.

ثم إننا نعيش في زمن السرعة حيث الجمل الطويلة تُعدّ استفزازاً، والفكرة العميقة تُعتبر ثرثرة. تحتاج القراءة إلى وقت وتأمّل وصمْت وصبر، وهذا من أكثر ما نخشاه. كيف نقرأ ونحن نعيش في ضجيج دائم، في عالم يختزل المعرفة في “ملخص من دقيقتين”؟ حتى من يقرأ، يفعل ذلك من باب الزينة الثقافية: فقرة على “إنستغرام”، اقتباس على فنجان قهوة، وصورة مع كتاب مفتوح لا أحد يعرف هل فُتح قبل التقاط الصورة أم بعدها.

ثمّ إننا نُدرّس الأدب كما تُدرَّس الخرائط، نبحث فيه عن العناوين لا عن المعاني. ونُدرّس الفلسفة كما تُدرَّس قوانين المرور، نطلب من التلميذ أن يحفظ الإشارات لا أن يسلك الدروب. ونقرأ الشعر كما نقرأ التحذيرات الصحية على علبة السجائر، نمرّ على الكلمات دون أن نُصاب بحرارتها. لذلك لا يقرأ التلميذ، لأنه لم يلتقِ بعد بنصٍّ يتنفّس، أو بفكرةٍ تُقْلقه، أو بكتابٍ يُعيد ترتيب العالم في ذهنه.

ربما حان الوقت لنعيد اكتشاف معنى القراءة قبل أن نطالب بها. فالقراءة ليست جمعاً بين الحروف، إنها لقاءٌ حيّ مع العالم. من يقرأ حقاً لا يخرج من الكتاب كما دخله، لأن القراءة تُبدّل زوايا النظر وتُربك اليقين. لذلك لا يقرأ التلميذ، لأننا لم نعلّمه شغف السؤال ولا جرأة الحوار، فقد ربّيناهُ على الخوف من التفكير، وعلى الطاعة التي تُغني عن الفهم. لذلك سيظلّ السؤال: “لماذا لا نقرأ؟” سؤالاً مشروعاً ما دمنا نُحب الكتب أكثر مما نُحب القراءة، ونُقدّس المعرفة أكثر مما نُمارسها، ونضع الخطط لإحياء القراءة فيما نحكم عليها يومياً بالموت البطيء في مدارسنا. ولعلّ أصدق إجابة عن هذا السؤال أن نقول: نحن لا نقرأ لأننا لم نتعلّم بعد أن نحلم. فالقراءة، في جوهرها، نوع من الحُلم اليقظ؛ ومن لا يعرف كيف يحلم، لا يعرف كيف يقرأ.

من الإنشاء إلى الكراهية

فهل نحن فعلاً نقرأ كي نعرف، أم نعرف كي لا نقرأ؟ لقد تحوّل محوُ الأمية عندنا إلى شعار مُطمئن أكثر منه فعلاً محرّرًا، وصارت القراءة مشروعاً نمارسه بالكاميرات لا بالعقول. نُكثر من الخطط، فنبدو مثقَّفين على الورق، أُمِّيين في الفِكْر. كل شيء يُدار وفق منطق النجاح الإداري: نعلن الأرقام كما تُعلَن نسب النّمو، وننسى أن الوعي لا يُقاس بالإحصاء. لا تُهزم الأمية بتعلّم الحروف، وإنما بالأسئلة التي تزعزع الصَّمت، ولا تُستعاد القراءة إلا حين نكفّ عن التعامل معها مثلَ واجبٍ ونتعلمُ أن نُمارسها باعتبارها حَياة. باختصار، لا يقرأ تلامذتنا لأن المدرسة، ببساطة، لم تقُل لهُمْ يوماً إنّ النص يمكن أن يُضحكَهم، أو يُبْكِيهم، بل قالت: “احذرُوا، في الامتحان سيسألُونكم عن الأسَاليب الإنشائية!” ومن يوْمِها، صارُوا يكرهُون الإنشاء… والقراءة… وربما الحياة نفسها.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا