آخر الأخبار

شويكة يصطاد "طحالب مرة".. الهامش بين ثلاثية الصمت والهوية والانتظار

شارك

لماذا “طحالب مرة”؟ يحمل السؤال منذ بداية الفيلم في ذهن المشاهد أكثر من دلالة ومعنى. هل الطحالب مرة لهذا الحد؟

يحمل الفيلم في طياته رمزية المكان، والطموح، والجوع، والإرث الاجتماعي والاقتصادي، وتمازج هذه العناصر مع امرأة تناضل من أجل حقها في الميراث وضمان عيش أسرتها. ويشير الاسم إلى الطحالب كمصدر رزق وسكن، وكمكوّن عضوي دقيق في بيئة هشة، وكهوامش طبيعية من بحرٍ يمدّ بثروة هادئة أحيانًا، وعاصف في أحيانٍ أخرى، ويخفي الكثير من الأسرار التي تتدافعها الأمواج بغضب وبقسوة ومرارة…

لعبة الغياب والحضور: مرارة الظلم

تبدأ قصة فيلم “طحالب مرة” (أكتوبر 2025/ المدة 95 دقيقة) للمخرج إدريس شويكة بهنية التي تعيش في قرية ساحلية مع زوجها مصطفى على جمع الطحالب والصيد البحري. ويشكل الغياب المفاجئ لمصطفى نقطة التحول: ليس فقط غياب رجل عائل، وإنما فتح باب الصراع مع أخيه المعطي الذي يستولي على القاربين اللذين ورثهما مصطفى، ويرفض إعطاء هنية حقها في الميراث بحجة أن اختفاء زوجها ليس تأكيدًا نهائيًا.

وهكذا ينشأ الصراع المركزي: دعم قانوني واجتماعي للميراث من جهة، وانغلاق تقليدي يحمل سلطة ذكورية من جهة أخرى، ويظهر المعطي (ماجد لكرون) ليس فقط كمخالف قانوني، وإنما كممثل لقوى اجتماعية وثقافية ترفض الاعتراف بالنساء كعاملات معيلات. وتتحول هنية (يسرى بوحموش) في هذا الإطار، إلى بطلة يومية؛ لا تبحث عن البطولة الكبرى، وإنما تبحث عن أن يُنظر إليها، وأن يعترف بحقها، وأن تعيش بالكرامة في إطار لعبة سينمائية كبرى بين الغياب والحضور.. وهنا متاهة الحكاية عن قسوة الظلم الاجتماعي بوجوه ومقاسات مختلفة.

ويشكل المكان في الفيلم دورًا مركزيًا، سواء باعتباره خلفية للفيلم، أو شريكًا سرديًا يُحدّد المزاج العام للفيلم في سياقاته النفسية والعاطفية، حيث القرية الساحلية، والبحر الممتد، والأمواج، والزوارق، ورائحة الطحالب، وصوت المد والجزر، ورذاذ المياه، وضوء الصباح الحاد أو الشفق حين الغروب، وكلها صور تتيح إحساسًا بالموطن وحدود المواطنة والحدود بين الأمل والخطر. ويدير مدير التصوير فاضل شويكة الكاميرا باقتدار ويعمق من التفاوت بين المناطق الجافة والبحرية، ومن تأرجح الكاميرا بين السكون والحركة وبين الزوارق، والجبال الطينية، وبين ثنايا الماء الذي يتجمع أو يُجرف.

وما يجمع بين هنية والمكان هي علاقة توأم يصنعها الغياب والظلم. وهنا البحر هو مصدر رزقها، لكنه أيضًا مصدر قلق بعد اعتراض حقها في القوارب والصيد، والطحالب، والرياح، والغياب. وتعتبر الزوارق التي اختفى بها زوجها رمزية: فهي لا تعتبر فقط وسيلة عمل، ولكنها أيضًا ميراث مادي ومعنوي. عندما تُحرم منها، يكون الإقصاء مزدوجًا: اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا ورمزيًا.

وتتسم العلاقة بين هنية والمعطي بالقوة والضعف، والقانون والعرف، وبين الأخت والابن لأم واحدة أو أخ لزوجها، فهي الضفة التي تعتاش على الميراث العائلي، والتي ترفض السماح بوجود امرأة تعمل وتقرر. ويتعامل المعطي مع هنية كما لو أنها ليست ذات حقوق إلا في ظل ظهور رجل، أو غياب الرجل المؤكد.

وتبقى العلاقات الأخرى تكمل سردية الفيلم الاجتماعي بنفس سياسي مستتر: مع الأطفال، مع الجيران، ومع الطبيعة، ومع البحر، ومع أم المعطي (غظيفة) التي تحفظ الأمل رغم الصمت. وهنا العلاقة مع التعليم، حيث الأطفال قد يذهبون إلى المدرسة أو لا، ولكن موضوع الطفولة جزء من السرد الإنساني.

ولا تميل الجمالية في الفيلم إلى التجميل البصري الزائد، وإنما إلى حكاية اجتماعية مشوبة بشعرية حيث التفاصيل الصغيرة التي تُخفي كثيرًا وتكشف الأكثر: اليد التي تصطاد الطحالب، وملامح الوجوه بعد التعب، والثوب المبلّل بالملح، وإحساس الأرض الرملية تحت القدمين، وصوت الأمواج تحت الأرجل، وصمت الحزن، وضحكة مرّة في وسط الألم.

ثلاثية الصمت والهوية والانتظار

تمرّ هنية نفسيًا بمرحلة مزدوجة من الغياب: غياب زوجها (الجسدي)، وغياب الاعتراف الاجتماعي والميراث (الرمزي). وتشكل الصدمة التي يصنعها اختفاء زوجها مصطفى ليست فقط اختفاء امرأة لزوجها، وإنما اختفاء الحماية الاجتماعية، واختفاء الحقوق، واختفاء الأمان الاقتصادي. ويصبح الانتظار حالة نفسية يومية متلازمة: هل سيعود؟ هل سيُعترف بها؟ فقط حروب صغيرة من الشائعات والتهم والردود والانعكاسات لحالات نفسية، تلك الأسئلة تُسلّط الضوء على تأرجح العلاقات الاجتماعية والنفسية بين الأمل واليأس، وتخلق من شخصية هنية بطلة مأساوية في وضوحها، وبطلة تُصارع من أجل حق صغير لكنه كبير جدًا: أن تُعتبر إنسانًا كاملًا.

وهنا تكمن الرمزية في الطحالب نفسها: نبتة متواضعة تنمو تحت الماء المالح بالموج، وتكاد تُنسى إن لم تُجمع، لكنها تُعطي حياة لمن يجمعها. وهنا الميراث لا يمثل مجرد أموال أو زوارق، وإنما اعتراف بالهوية، وبالانتماء، وبالنساء كفاعلات في المجتمع المغربي حيث الصراع على الميراث يصبح صراعًا وجوديًا.

سلطة التشكيك واللايقين

يبدو السرد الفيلمي طبيعيًا وواقعيًا، حيث يبدأ من العيش اليومي، ويصقل الشخصيات بالبُعد الحكائي والسردي: هنية الأم، المعطي الأخ، غظيفة الأم الكبيرة التي تحتفظ بالأمل، والأطفال الذين يرون العالم بمنظار البؤس أو الطموح. ولا يُظهر الفيلم بطلًا مثاليًا بالكامل، وإنما شخصيات تتوزع بقيودها الاجتماعية: هنية مرتبكة أحيانًا، والمعطي اندفاعي، ويتعايش المجتمع مع الظلم وقسوة السلطة بحرجٍ أو برضى ضمني.

ولا يعتمد الخطاب الفيلمي فقط على الحوار الصريح، بقدر ما يعتمد على تلميحات وفعل صامت، مثلاً حين ترفض هنية أن تستسلم لرفض المعطي، وحين يقول المعطي شيئًا مثل “لم أتأكد أن مصطفى اختفى فعلاً”، ويعكس هنا رفضًا رمزيًا ومبطنًا لإثبات غيابه، ولكنه أيضًا تكريس لسلطة التشكيك واللايقين في حق المرأة. ولا تمثل هذه العبارة مجرد نص، فهو خطاب اجتماعي يسترجع كثيرًا من القوانين التي تُشكّك في المرأة، وتُجبرها على تقديم إثبات، بينما الرجل كمفهوم يملك الأرشيف، ويمتلك الحق بالمطلق غالبًا.

ويلعب الصوت والموسيقى والديكور دورًا مهمًا في الخطاب الفيلمي، وسردية الفيلم حيث أماكن الديكور التي راهن عليها السيناريست، وهي بيوت بسيطة، وأثاث بسيط وجدران قديمة. وتشكل كل هذه الأصوات: صوت البحر، والرياح، والطحالب، والموج، وأنفاس الشخصيات صوتًا مضادًا للصمت الاجتماعي. ولا تخفي الموسيقى الواقع، وإنما ترافقه، كما في لحظات الصمت الثقيلة خاصة مع موسيقى مجموعة ناس الغيوان في الخلفية بين الحين والآخر وظهور عمر السيد وهو يحكي أمام البحر عن تجربة ناس الغيوان وأن الزمن لم يعد الزمن. وهو تكريم خاص لعمر السيد وحضوره الممتد في الذاكرة المغربية بين الغناء والسينما والتمثيل والثقافة الشعبية.

صراع الهوية من الخارج والداخل

سبق للمخرج إدريس شويكة أن اشتغل على أفلام مثل “فداء” والتي ترجع سرديتها الفيلمية إلى سنوات المقاومة ضد الاستعمار، حيث استخدم الأبيض والأسود لتوثيق تلك الحقبة، وأفلام مثل “لعبة الحب”، “فينك أليام؟”، والتي تمزج بين السرد العائلي والهوية الثقافية، وبين الفرد والمجتمع، وبين التقاليد والتغيير.

ونجد في فيلم “فداء”، النضال التاريخي والسياسي، وفي فيلم “طحالب مرة” نجد نضالًا اجتماعيًا يوميًا، أقل ضجيجًا، لكنه بنفس حجم المعاناة والكرامة. ويراوح المخرج بين موضوعة الهوية المغربية والهوية الوطنية في مواجهة الاستعمار، وبين الهوية داخل المجتمع، وداخل القرية، وبين النساء وداخل أفق السلطة الذكورية، وبين القانون والعرف.

ويعكس فيلم “طحالب مرة” في بعده التخييلي، جماليات مشهدية، حيث هنية وهي تجمع الطحالب عند الفجر، ضوء شاحب، وقطرات ماء على أقدامها، وصوت الموج في الخلفية، والرياح الخفيفة، وطحالب تُجرفها الأمواج، والأخمص الرطب للماء. والمشاهد التي تظهر القوارب الموروثة، وهي رمز لوضع اقتصادي مأزوم وميراث مادي متصارع حوله، وقوارب تتجه يوميًا للصيد بشجاعة، كل ذلك يصور التناقض بين ما كان وما هو قائم، ويعكس بعدًا سينمائيًا بشاعرية تقربنا من فيلم “شاطئ الأطفال الضائعين” للمخرج جيلالي فرحاتي.

بالمقارنة مع سردية هنية هناك قصة حب موازية لشاب وشابة في مقتبل العمر، تنتهي بالمأساة، لم ينتصر فيها المخرج لإرادة الحب.

للإجابة على السؤال لماذا طحالب مرة؟ لأن الطحالب مرّة، بمرارة الحياة، والمرارة هنا تقود إلى مرارة التمرد، والانتظار، والحزن، والأمل. ويحمل الاسم نفسه التناقض: الطحالب تنمو في الماء المالح، وتنقع مرارة البحر واختلاطها بالحياة. وتنطق “مرّة” بطعم المذاق، وتُذكّر الناس أن نوع المعاناة هاته ليس حلوًا، ولكنها حقيقية، لا يُمكن تجاوزها إلا بصمود الذات.

ولا يمثل فيلم “طحالب مرة” مجرد فيلم يروي، وقصة امرأة تُريد حقها، وإنما مرثية جماعية لمن لا يُمنحون الكلام، ولمن لا تُرى حياتهم، ولمن يحاول أن يصنع وجوده داخل نظام يرى أن غياب الرجل يعني غياب الحق. وبهذا العمل لا يقدم المخرج إدريس شويكة مأساة مكتوبة، وإنما يحفر صوتًا في وجدان المشاهد يؤنسه، ويحمله للوقوف أمام المرآة: كيف ننظر إلى المرأة، وإلى القانون، وإلى الإرث، وإلى أنفسنا. وهذا الصوت فهو في الأصل صوت الصراع واليأس والأمل الذي لا يسكن سوى في التفاصيل “المرة” والعالقة في الوجدان والروح. ويجعل منها الفيلم ليس مشروعًا سينمائيًا فحسب، بقدر ما يجعل منها تصالحًا مع الكرامة الإنسانية التي كثيرًا ما تُخفيها الظلال في قسمات وجوه تحمل اسم مواطنة…

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا