عرفت الساحة التعليمية الوطنية مؤخرا جدلا واسعا بعد إحالة مشروع القانون رقم 59.21 المتعلق بالتعليم المدرسي على البرلمان، في خطوة تعتبرها الحكومة جزءا من مسار إصلاح المنظومة التربوية بالمغرب.وأثا إحالة مشروع القانون على أنظار البرلمان موجة انتقادات شديدة من لدن النقابات التعليمية، التي رأت فيها محاولة من الوزارة الوصية لتعميق أزمة المدرسة العمومية المغربية.
ويهدف المشروع الجديد الذي شرعت لجنة لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب في مناقشته، إلى توحيد الإطار القانوني للتعليم المدرسي وتنزيل التوجهات العامة للسياسات العمومية في هذا المجال، لكنه واجه انتقادات قوية من بعض الفاعلين التربويين والاجتماعيين.
الجامعة الوطنية للتعليم – التوجه الديمقراطي (FNE) اعتبرت المشروع غير إصلاحي، مشيرة إلى أنه يعيد إنتاج السياسات التي عمقت أزمة المدرسة العمومية. وفي تصريح لعضو اللجنة الادارية الوطنية للجامعة، المختار الدرازي، أكد أن القانون “باطنه السم وظاهره العسل”، مضيفا: “أمامنا قانون باطنه السم وظاهره العسل، أو كما يقول المثل الفرنسي، تحت الورود تختبئ الافاعي”.
وأضاف الدرازي أن المشروع جاء في سياق سياسي واجتماعي متوتر، مع تصاعد موجات الغضب والاحتجاجات الاجتماعية، مشيرا إلى أن الحكومة تسعى لتمريره بسرعة لإخماد الاحتقان وإسكات الرأي العام، دون نقاش وطني واسع أو حوار تشاركي فعلي مع الفاعلين التربويين، وأن البرلمان يخضع بدوره لإكراهات سياسية وانتخابية تدفعه نحو المصادقة دون تمحيص.
وترى الجامعة أن المشروع لا يمكن فصله عن خطاب الملك في افتتاح الدورة التشريعية في 10 أكتوبر 2025 الذي دعا إلى تسريع إصلاح التعليم والصحة، لكنها تعتبر أن الحكومة تعاملت مع هذه التوجيهات بمنطق الاستعجال السياسي لا بمنطق الإصلاح التربوي الحقيقي. كما اعتبرت الجامعة أن مشروع القانون الجديد ليس سوى “مرسوم تنفيذي للقانون الاطار 51.17″، الذي يجعل السياسات التربوية التزامات تعاقدية تلزم كل الحكومات بمواصلة نفس التوجهات بغض النظر عن نتائجها، ما يفقد الإصلاح أي مضمون ديمقراطي أو وطني.
وتشير الجامعة إلى أن المشروع يكرس منطق الخوصصة والتفويض، خصوصا في مواده 40 و41 التي تفتح الباب أمام الفاعلين الخواص لتدبير التعليم المدرسي، وتسمح للدولة أو الجماعات الترابية بإبرام عقود تدبير مفوض مع مؤسسات خاصة لتقديم خدمات تعليمية، على غرار ما هو معمول به في قطاعات الماء والكهرباء. وترى الجامعة أن هذا يمثل “آلية جديدة لتقنين الخوصصة وضرب المدرسة العمومية في عمقها الاجتماعي”، محولة التعليم العمومي من مرفق عام إلى مجال مفتوح أمام منطق الربح والخسارة.
وأوضح الدرازي أن المشروع “ينظم إصلاحا يعني عملياً تدمير التعليم العمومي وحرمان أبناء الشعب المغربي منه باسم الشراكة والتعاقد”، محذرا من أن ما تسميه الحكومة “تنويع مصادر التمويل” ليس سوى مدخل لبيع ما تبقى من مجانية التعليم، إذ ينص المشروع على إدخال التمويل التشاركي القائم على مساهمات الجماعات الترابية والمؤسسات الخاصة والهيئات الدولية، ما يعني تخلي الدولة تدريجيا عن مسؤوليتها في تمويل التعليم وتحويله إلى سلعة تدار وفق منطق السوق.
وقال الدرازي: “إنه انتقال من التمويل العمومي الكامل إلى التمويل الخارجي والخاص، أي من المدرسة العمومية إلى مدرسة السوق، وهو ما يفرغ مبدأ العدالة الاجتماعية من محتواه”.
كما تنتقد الجامعة تناقض المشروع مع مبدأ تكافؤ الفرص، إذ إن المؤسسات الخصوصية متمركزة في المدن والحواضر، بينما تترك المناطق القروية في الهامش، ما يعمق الفوارق التربوية والاجتماعية. وأضاف الدرازي: “أين هو تكافؤ الفرص الذي يتحدثون عنه؟ نصف المدارس اليوم تعتمد نموذجا بيداغوجيا مختلفا عن الآخر، ونصف الأسر تثقلها مصاريف التعليم الخصوصي، فكيف يمكن الحديث عن عدالة تربوية؟”
وتشير الجامعة إلى أن المشروع يتجاهل الوضع الاجتماعي للأسر المغربية، إذ تنص مواده 8 و9 و62 على فرض غرامات تتراوح بين 2000 و5000 درهم على الأسر التي لا تسجل أبناءها في سن التمدرس الإلزامي، دون مراعاة ظروف الفقر والهشاشة، ما يشكل عقابا للفقراء بدل دعمهم.
وشددت الجامعة على أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم عبر قرارات فوقية أو تغييب الفاعلين، بل يجب أن ينبع من المدرسة العمومية نفسها ومن نساء ورجال التعليم الذين يعيشون يوميا أعطاب المنظومة. وأكد الدرازي: “لا إصلاح بدون إرادة سياسية حقيقية، ولا إصلاح بدون إشراك مباشر للمدرسين والنقابات، ولا إصلاح دون حل الملفات الاجتماعية العالقة. الإصلاح يبدأ بمحاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة، لا بتحميل المدرسين فشل المواثيق السابقة”.
واختتم الدرازي موقفه بالقول: “إذا كان مشروع القانون 59.21 يجيب عن سؤال: هل نريد تعليما جيدا ومجانيا وموحدا؟ فإن جوابه خاطئ منذ البداية، لأنه يزرع القلق بدل الأمل”. وبذلك تعتبر الجامعة أن المشروع ليس إطارا قانونيا جديدا للإصلاح، بل محطة مفصلية في مسار تفكيك المدرسة العمومية وتقنين خوصصتها، إذ يكرس التعاقد، ويضعف المجانية، ويغيب البعد الاجتماعي والحقوقي، ليعيد إنتاج نفس أعطاب الماضي بوسائل جديدة.
المصدر:
العمق