آخر الأخبار

سينما الواقع السياسي في "المغسلة" .. قوانين تُفصَّل على مقاس الفساد

شارك

فيلم “المغسلة”، الذي أخرجه ستيفن سودربيرغ سنة 2019، هو عمل سينمائي قائم على أحداث واقعية استلهمت من تسريبات “وثائق بنما”، التي فضحت شبكة عالمية لغسيل الأموال والتهرب الضريبي تمارسها نخب مالية وسياسية من مختلف أنحاء العالم. الفيلم مأخوذ عن كتاب “Secrecy World” للصحفي جيك بيرنستاين، ويعتمد أسلوب السرد الميتا- سينمائي، إذ يتداخل فيه الوثائقي بالروائي والسخرية السوداء بالنقد السياسي ليقدم رؤية عميقة ومركبة عن النظام المالي العالمي وفساده المؤسساتي.

ينتمي فيلم The Laundromat أو “المغسلة” أو “مغسلة الأموال”، حسب الترجمة إلى اللغة العربية، إلى سينما الواقع السياسي وسينما النقد الاجتماعي. ويقترب كثيرًا من الأفلام التي تحاكي الواقع من خلال توليفة سردية تجمع بين الدراما والكوميديا السوداء، وهو أسلوب بات يميز بعض أعمال المخرج، إذ يعيد عبره تشكيل الأحداث الحقيقية في قالب فني يمزج التسلية بالتحريض الفكري. ولا يكتفي الفيلم بسرد قصة خطية، بل يختار بناءً فسيفسائيًا من القصص المتوازية التي تتقاطع في خلفيتها وتدل كلها على منظومة عالمية من الفساد المُمَنهَج والشر المقنَّن.

مصدر الصورة

بداية المأساة

يبدأ الفيلم من مأساة تبدو عائلية صغيرة، إذ تفقد البطلة إلين مارتن، التي تلعب دورها ميريل ستريب، زوجها في حادث قارب سياحي، لكن حين تسعى للحصول على تعويضها تكتشف أن شركة التأمين مجرد واجهة وهمية ضمن سلسلة شركات أوفشور تمتد عبر دول عديدة لتتهرب من الضرائب وتغطي على ممارسات غير شرعية. وتبدأ رحلة مارتن في محاولة فهم هذا النظام المالي الغامض لتتورط تدريجيًا في شبكة معقدة من الشركات الوهمية والمصالح المتشابكة. ومن هنا ينطلق الفيلم للكشف عن شخصيات عديدة من زبائن هذه المنظومة المنتشرين بين أمريكا والمكسيك والصين وأفريقيا وأوروبا، وكلها تدور في فلك واحد تحكمه قوانين جشع لا أخلاقية.

الشخصيتان المحوريتان في الفيلم هما المحاميان يورغن موساك ورامون فونسيكا، المؤسسان لشركة “موساك فونسيكا” في بنما، وهما يلعبان دور الراويين العارفين بخبايا اللعبة، فيكسران الجدار الرابع ويتوجهان إلى المشاهد بشكل مباشر في حوارات ساخرة وتعليمية أحيانًا ليشرحا كيفية بناء الشركات الوهمية والتحايل على القوانين المحلية والدولية. ويمنح الفيلم لهاتين الشخصيتين طابعًا رمزيًا، فهما ليسا فقط ممثلين للشركة، بل هما تجسيد للفكر النيوليبرالي الذي يجعل من القوانين مجرد أدوات لخدمة رأس المال.

“مغسلة الأموال”.. خفايا الإمبراطوريات الخفية

يطرح الفيلم مسألة العدالة في ظل عولمة اقتصادية متوحشة، إذ يكشف كيف أن النظام القانوني الذي يُفترض أنه ضامن للحقوق يستخدم بطريقة شرعية، ولكن غير أخلاقية، لتقنين الفساد. ويستعرض الفيلم كيف أن الأثرياء يستطيعون اللعب في الثغرات القانونية لبناء إمبراطوريات خفية، بينما تبقى الطبقات الوسطى والفقيرة عالقة في القوانين الضيقة التي تعاقبها على أبسط المخالفات. هذه الإشكالية تضع تساؤلًا فلسفيًا عميقًا حول فكرة القانون نفسها: هل هو أداة للعدالة، أم مجرد غطاء يُطوّع حسب من يملك السلطة والمال؟

ويطرح الفيلم إشكالية الشفافية في عالم الإعلام والسياسة. إذ رغم ضخامة الوثائق المسربة وتورط شخصيات سياسية واقتصادية من الصف الأول، فإن النظام لم يتغير بشكل جذري، ولم تفضح إلا القلة. فهل الحقيقة تكفي لتغيير الواقع، أم أن كشفها مجرد خطوة أولى في مسار طويل من المقاومة؟.. هذا سؤال يتردد في خلفية السرد دون جواب مباشر، لكنه يحيل المتلقي إلى مسؤوليته الفردية في فهم ما يحدث وعدم الاستسلام للسرد الرسمي.

ويؤسس “The Laundromat” لفكرة أن النظام العالمي الحديث ليس مجرد علاقات اقتصادية عفوية، بل هندسة ممنهجة ومخطط لها تعمل في الخفاء بآليات قانونية، لكنه يخترق القيم الإنسانية الأساسية مثل العدالة والمساواة والشفافية. ويبرز الفيلم أن الخلل ليس في بعض الفاسدين، بل في النظام نفسه، الذي يسمح بهذا النوع من التحايل ويوفر له أدواته القانونية والمصرفية والدبلوماسية.

مصدر الصورة

ويعتمد الفيلم على بناء سردي غير تقليدي يتنقل بين عدة شخصيات وسياقات جغرافية في نوع من الفصول القصصية، التي تتشابك في مغزاها العام، ويستخدم السرد المتداخل والتقطيع الزمني ليخلق حالة من التوتر الفكري وليس فقط الدرامي. كما أن كسر الجدار الرابع يمنح الفيلم بُعدًا تعليميًا نقديًا، إذ يتكلم الفيلم مع المشاهد ويكشف له الخدع البنيوية، ويقترح عليه أن يكون جزءًا من إعادة بناء الوعي لا مجرد متلقٍ سلبي.

ويوظف المخرج الكوميديا السوداء والسخرية في الفيلم، إذ يسمح بنقل رسائل ثقيلة بطريقة خفيفة، ويمنح المسافة الضرورية للتفكير بدل التلقّي المباشر. وشخصيات الفيلم رغم واقعيتها مبالغ في تمثيلها بشكل ساخر لتقديم نقد لاذع، لكن غير مباشر، للممارسات اليومية للسلطة المالية والسياسية.

ويثير الفيلم أيضًا بالهوية القانونية للشركات كيف يمكن لكيان افتراضي غير موجود فيزيائيًا أن تكون له حسابات بنكية ويملك سفنًا وعقارات ويقاضي أفرادًا حقيقيين، بينما لا يمكن محاسبته بنفس الطريقة. وهذه الفكرة تفتح باب النقاش حول مفاهيم مثل الدولة القومية والاقتصاد العابر للحدود والسيادة السياسية التي صارت وهمًا في ظل الرأسمالية العالمية.

ويتجلى البُعد التوعوي للفيلم في توجيهه رسالة مباشرة للمشاهد بأنه لا يوجد نظام فوق النقد، وأن التغيير لا يبدأ من الخارج، بل من داخل البنية الثقافية والإعلامية والاجتماعية، التي تسمح بإعادة إنتاج هذه المنظومة مرارًا. ولا يعطي الفيلم حلولًا جاهزة، لكنه يفتح أعيننا على أعماق لا نراها عادة، ويبرز أن الاستهلاك النقدي للواقع ضرورة وليس رفاهية فكرية.

يقدم “The Laundromat” عملاً تركيبيًا متشابكًا يستند إلى سرد واقعي محكم بأسلوب ساخر وأداء تمثيلي متقن ليكشف الوجه الخفي للعالم الذي نعيش فيه، ويرسم خريطة معقدة للمصالح التي تتقاطع فوق القانون وتحت رقابة شكلية. يمنحنا الفيلم فرصة للتفكير في حدود الدولة والعدالة والسلطة في عصر تسود فيه سلطة المال فوق كل شيء، ويجعلنا نعيد النظر في أسس النظام العالمي ليس باعتباره معطى، بل كمشروع أيديولوجي يمكن، بل يجب مساءلته.

مصدر الصورة

سينما سودربيرغ.. الفوضى المراقبة

تتميز سينما ستيفن سودربيرغ بطابع تجريبي متجدد يجمع بين الجرأة الأسلوبية والوعي العميق بالبناء السردي وتوظيف التقنية في خدمة الرؤية الفنية. منذ انطلاقته بفيلم “Sex Lies and Videotape” (سينما، جنس وأكاذيب) سنة 1989 كشف عن ميله لتفكيك الشكل التقليدي للفيلم الأمريكي واستكشاف الهامش بدل المركز، وهو ما استمر في تشكيل بصمته السينمائية طوال مسيرته المتنوعة والمتقلبة من حيث النوع والأسلوب.

من أبرز خصائص سينما سودربيرغ تنقله السلس بين الأنواع السينمائية دون أن يفقد هويته كمخرج شخصي. وله قدرة على أن يقدم فيلما مستقلا صغير الميزانية بأسلوب وثائقي كما في “Bubble”، ثم ينتقل لإخراج فيلم ضخم كـ”Ocean’s Eleven” أو دراما سياسية جادة مثل “The Informant” و”The Report”.. وهذا التنوع لا يعكس فقط قدرة تقنية، بل أيضاً رغبة في استكشاف الإمكانيات الجمالية لكل نوع وسؤال علاقته بالواقع والسياسة والتاريخ.

ويعتمد سودربيرغ في كثير من أعماله على تقنيات بصرية غير مألوفة، من بينها التصوير الرقمي باستخدام كاميرات خفيفة كما فعل في أفلام مثل “Unsane” و”High Flying Bird”، إذ اشتغل بكاميرات آيفون دون أن يفقد حسه الجمالي، بل استثمر محدودية الوسيلة لإنتاج صور مكثفة وموترة. كما يتميز باستخدامه للتقطيع السريع والمونتاج المراوغ لتفكيك الزمن الخطي وإعادة ترتيب المعنى كما في فيلم “Traffic”، الذي وظف فيه الألوان لتمييز خطوط السرد وتوليد إحساس بالفوضى المراقبة.

مصدر الصورة

ويشتغل المخرج سودربيرغ على موضوعات السلطة والفساد والاقتصاد الخفي، وغالباً ما تكون شخصياته في تماس مباشر مع بنية النظام، سواء كانت ضحية له أو فاعلة داخله. وهو يهتم بما هو تحت السطح والمستور، فيكشف البنية وليس فقط القصة كما يتجلى في “The Laundromat” أو “Erin Brockovich” أو “Contagion” حيث يضع الفرد في مواجهة مؤسسات ضخمة ويطرح تساؤلات وجودية حول التحكم والمعرفة والمسؤولية.

ويقوم أسلوبه الإخراجي غالباً على البساطة الشديدة من حيث الأداء والحوار والإضاءة، لكنه يخفي تعقيداً بنيوياً كبيراً، إذ يوهم المشاهد بسهولة التلقي، بينما يدفعه ضمنياً نحو إعادة التفكير فيما يشاهده هو أيضاً. وغالباً ما يشتغل كمصور ومونتير بنفسه تحت أسماء مستعارة، مما يمنحه تحكماً كاملاً في النسيج السمعي البصري لفيلمه، ويجعل من كل مشروع وحدة عضوية متكاملة بين الفكرة والشكل.

يمكن القول إن سينما سودربيرغ مختبر جمالي وفكري مفتوح يؤمن بالتحول المستمر والتجريب التقني والتنوع الأسلوبي، لكنها تظل وفية لجوهرها النقدي الذي يرى في الفن أداة لفهم العالم لا مجرد وسيلة ترفيهية.

مصدر الصورة

“المغسلة”.. ثنائية زيف القوانين والرماد الأخلاقي

يتوزع فيلم “The Laundromat”على مجموعة من الشخصيات التي تبدو للوهلة الأولى متفرقة، لكن سرعان ما تنكشف صلاتها المتشابكة ضمن منظومة فساد عالمي. أبرز هذه الشخصيات هي إلين مارتن، التي تلعب دورها ميريل ستريب، وهي امرأة أمريكية بسيطة تجد نفسها فجأة أمام شبكة معقدة من الشركات الوهمية بعد وفاة زوجها في حادث قارب. وتظهر إلين في بداية الفيلم كشخصية عاطفية تبحث فقط عن العدالة والتعويض، لكن مع تقدم السرد تتحول تدريجيا إلى رمز لمقاومة النظام والبحث عن الحقيقة خلف الأقنعة القانونية والمصرفية. تقول في أحد المشاهد: “لقد ظننت أنني أفهم كيف يعمل العالم، لكن يبدو أنني لم أفهم شيئًا”. ويكشف هذا القول التحول في وعي الشخصية من الثقة الساذجة إلى التشكك النقدي ومن الضحية إلى الباحثة عن مساءلة الفساد.

البطلان الرمزيان للفيلم هما يورغن موساك ورامون فونسيكا، المحاميان البنميان اللذان يجسدان العقل المدبر لنظام الشركات الوهمية، ويؤدي دوريهما كل من غاري أولدمان وأنطونيو بانديراس. ويتحدث البطلان، اللذان يشكلان ثنائيا ساخرا، مباشرة إلى المشاهد في كسر واضح للجدار الرابع، ويقدمان نفسيهما لا كأشرار تقليديين، بل كمثقفين ساخرين، يشرحان كيف يعمل النظام دون أن يعتذرا عنه، بل في بعض الأحيان يدافعان عنه بشكل ساخر وبارد. يقول موساك في أحد الحوارات: “الناس لا يريدون الحقيقة، هم يريدون أن يصل المال إليهم كما يصل إلى غيرهم”. هذه الجملة تكثف الرؤية النفعية التي تحكم المنظومة وتبرر كل التجاوزات.

ورغم التنوع الجغرافي والاجتماعي للشخصيات الثانوية الفيلم، تلتقي جميعها عند نقطة واحدة، هي كونها أدوات أو ضحايا في شبكة الفساد الدولي. فهناك مثلًا رجل الأعمال الصيني الذي يخبئ أمواله في الخارج لحماية إرثه من القانون المحلي، وهناك العائلة الأفريقية التي تفقد كل شيء بسبب خطط وراثية مبنية على شركات وهمية، وهناك كذلك المدراء التنفيذيون الذين يظهرون في مشهد بعد مشهد كمجرد واجهات لتعاقدات لا يفهمونها تمامًا. وتكشف جميع هذه الشخصيات أن النظام مبني على غموض متعمد يجعل من فهمه الكامل مهمة شبه مستحيلة، وهو ما يتجلى في أحد الاقتباسات حين يقول رامون إن “السر الحقيقي ليس ما نخبئه، بل كيف نخفي أننا نخفيه”.

وليس البطل في هذا الفيلم بطلا تقليديا يحارب الشر بوضوح، بل بطلة مأزومة مترددة تحاول فقط أن تفهم ما يجري حولها. ولا تمتلك إلين مارتن الأدوات اللازمة لمواجهة النظام، لكنها تمتلك الإصرار الأخلاقي الذي يجعلها تقف وتطرح الأسئلة. ومن خلال رحلتها تتحول من أرملة حزينة إلى رمز للمواطن العادي الذي يكتشف زيف القوانين وعدالة المؤسسات. وتظهر البطلة في النهاية كصوت صادق في عالم غارق في الرماد الأخلاقي. إذ تخلع تنكرها وتواجه الكاميرا بشكل مباشر، وتقول: “الأمر لا يتعلق بالقوانين التي يسنّها السياسيون، بل بالثغرات التي يخلقها المال”. وهذا التحول النهائي يجعل شخصيتها تجسيدا للوعي الشعبي حين يبدأ في مساءلة السلطة والنظام.

اختيار ميريل ستريب لهذا الدور لم يكن عبثيا، فهي تمنح الشخصية العمق والتناقض اللازمين لتجسيد صورة المواطن الذي يملك القلب والحدس، لكنه يفتقر للنفوذ والسلطة. ومن خلال أدائها المتدرج ما بين الألم والاستغراب ثم الغضب تخلق مرآة لكل مشاهد عادي قد يجد نفسه يوما ضحية لعبة أكبر منه بكثير.

تُبنى الشخصيات في “The Laundromat” ليس من أجل التماهي فقط، بل لتشكيل خريطة ذهنية عن طبيعة النظام المعولم حيث يختلط الخير بالشر والقانون بالخداع والهوية بالتنكر، وكل شخصية في الفيلم، سواء أكانت ضحية أو مستفيدة، تنتمي إلى هذا النظام وتعيد إنتاجه بشكل أو بآخر. ولهذا فإن الفيلم لا يوجه أصابع الاتهام إلى فرد أو دولة، بل إلى البنية نفسها، وإلى الصمت الذي يحيط بها ويجعلها تعمل في الظل تحت أقنعة شرعية وقوانين مصممة لتُخترق.

“المغسلة”.. بين المشروع وغير المشروع

يستند فيلم “The Laundromat” إلى خلفية فكرية وفلسفية معقدة تتقاطع فيها قضايا العدالة والسلطة والمال والشرعية ضمن تصور نقدي لعالم معولم تتحكم فيه النخبة المالية من خلف الستار. ويقوم الفيلم على تفكيك فكرة القانون نفسها ليس بوصفه إطارا للعدالة، بل كأداة مرنة في يد من يملكون السلطة المعرفية والمالية لفهمه وتطويعه لمصالحهم. ويقترب الفيلم في هذا السياق من نقد المدرسة النقدية الحديثة، التي ترى أن المؤسسات لا تعمل بالضرورة لصالح الإنسان، بل قد تتحول إلى أدوات للهيمنة المقننة.

في قلب الخلفية الفلسفية للفيلم نجد تصورًا عميقًا لمشكلة الأخلاق في عالم ما بعد الحداثة حيث تتماهى الحدود بين المشروع وغير المشروع، ويتحول الخطأ من فعل أخلاقي إلى مجرد مخاطرة اقتصادية.

ولا تتحرك الشخصيات في الفيلم بدافع الشر التقليدي، بل بدافع المنفعة والتقنين والذكاء الذي يحوّل الانتهاك إلى سلوك قابل للتبرير. وهنا يتقاطع الفيلم مع أطروحات فوكو حول المعرفة والسلطة وكيف أن من يملك آليات إنتاج الخطاب يمتلك القدرة على تشكيل الواقع القانوني والأخلاقي.

كما يستبطن الفيلم خلفية ماركسية في نقده لسيطرة رأس المال على الحياة العامة، وتحويل كل العلاقات إلى تبادل مادي تفقد فيه القيم معناها، ويصبح الإنسان هامشيًا داخل شبكة معقدة من المصالح والعقود والوكلاء غير المرئيين. فالعالم الذي يصوره الفيلم ليس فقط فاسدًا، بل منظومة مصممة لإخفاء فسادها تحت قشرة من الشرعية.

ويعكس الفيلم تأثيرا واضحا للفكر البنيوي فيما يخص رؤية النظام الاقتصادي كنسق قائم بذاته لا يتحكم فيه الأفراد، بل يعيد إنتاج نفسه من خلالهم. هذه الرؤية تقوض فكرة البطل المغير، وتستبدلها بالفرد المحاصر الذي يحاول أن يفهم دون أن يقدر على التأثير.

وتجعل الخلفية الفيلم أكثر من عمل فني، بل أداة تحليل للعالم الحديث، وتقدم رؤية سوداوية، لكنها ضرورية لفهم ما يحدث حين يتحول القانون إلى قناع وتصبح الشفافية مجرد ديكور في نظام جوهره الإخفاء.

“مغسلة الأموال”.. المزج بين الكوميديا السوداء والدراما السياسية

يمثل فيلم “The Laundromat” للمخرج ستيفن سودربيرغ تجربة سينمائية مركبة تتقاطع فيها الهوية السردية والخطابية والبصرية والجمالية بطريقة تكشف البنية العميقة للفساد المالي العالمي وتعريه من خلال أدوات فنية تجمع بين السخرية والتجريب والواقعية السياسية. إذ لا يكتفي الفيلم بسرد قضية واقعية، بل يعيد إنتاجها في قالب فني يحتفي بالانكشافات أكثر من الاكتشاف، ويتعمد كسر التقاليد السينمائية ليطرح ذاته كموقف فكري وجمالي ضد السلطة الخفية التي يحركها جشع المال وجنون السلطة.

وتقوم الهوية السردية للفيلم على بنية فسيفسائية تقطع الخط الزمني وتتشظى إلى فصول مستقلة تتجمع تحت خيط درامي واحد، لا يظهر بوضوح إلا في نهايته، إذ يتخلى الفيلم عن البطل التقليدي وعن الحبكة الخطية لصالح تعدد الأصوات والوجهات، وهو ما يعكس الطابع المعولم والمشتت للشبكة المالية التي تستعرضها شخصيات الفيلم. وهذه الشخصيات ليست متصلة عبر علاقات مباشرة، بل تندرج جميعها ضمن تأثير المنظومة الاقتصادية غير المرئية التي تحكم العالم. هذا الشكل السردي وهذا التنويع في الشخصيات لا يسعيان فقط إلى تنويع القصص، بل إلى بناء إحساس بالضياع وعدم السيطرة، وهو الإحساس نفسه الذي تعانيه البطلة إلين مارتن في رحلتها وسط بيروقراطية الشركات الوهمية.

ولا يتم السرد في “The Laundromat” من داخل القصة فحسب، بل يأتي أيضًا من خارجها عبر شخصيتي المحاميين موساك وفونسيكا، اللذين يقدمان نفسيهما كراويين للأحداث، ويكسران الجدار الرابع بشكل متكرر. ويمنح هذا التداخل بين السرد الداخلي والخارجي الفيلم بُعدًا نقديًا ذاتيًا، إذ لا يكتفي بعرض القصة، بل يشرحها ويفكك آلياتها ويعلّق عليها بطريقة ساخرة أحيانًا وتعليمية أحيانًا أخرى. وبهذا يصبح السرد وسيلة مزدوجة لتقديم الحكاية ولتعليق ما بعد الحكاية في آن واحد.

وتتجلى الهوية الخطابية في أسلوب الفيلم التوعوي النقدي. إذ لا يهدف الفيلم إلى تحريك العواطف بقدر ما يسعى إلى كشف آليات التلاعب القانوني والمالي وفضح تواطؤ المؤسسات الكبرى في تبرير الجريمة الاقتصادية. وتعتمد الخطابة هنا على التهكم وعلى تكرار الحقائق بصيغ مختلفة لتأكيد بشاعتها وخطورتها. ولا يتحدث الفيلم بلغة شعبوية مباشرة، لكنه لا ينحاز أيضًا للغة النخبة، بل يوازن بين العمق والوضوح في خطابه متوجها إلى المتفرج العادي بلغة يفهمها لكن تدفعه للتفكير.

وتتأسس الهوية البصرية على أسلوب بصري يجمع بين الألوان المشبعة والإضاءة المسطحة والتكوينات المتقنة التي تُحاكي الإعلانات التجارية أو كتيبات السياحة، وهو ما يخلق مفارقة بين جمالية الصورة وقبح الواقع الذي تصفه. ويوظف الفيلم الإضاءة الطبيعية والديكور البراق ليحاكي عالم المال كما يريد أن يظهر. بينما تكشف الكاميرا في كثير من الأحيان زوايا غير معتادة أو تفاصيل بصرية صغيرة، وتنبّه إلى ما خلف الستار. فالبذخ البصري في بعض المشاهد لا يعبر عن الجمال، بل عن القناع الذي ترتديه المؤسسات لإخفاء فسادها. كما أن تنقل الكاميرا السلس بين بلدان وشخصيات مختلفة يعزز الإحساس باللامركزية، وهو ما يعكس البنية المعقدة والمتداخلة لعالم الأوفشور.

وتقوم الهوية الجمالية على المزج بين الكوميديا السوداء والدراما السياسية والتجريب البصري. إذ يعتمد الفيلم في كثير من مشاهده على التهكم والنبرة الساخرة من الشخصيات والوقائع لإنتاج مسافة نقدية تجعل المتفرج متورطًا وواعيًا في آن واحد. هذه الجمالية ليست فقط في الصورة، بل في التوتر الذي يخلقه الفيلم بين ما يرى وما يفهم. إذ يُعرض المشهد أحيانًا ككاريكاتور، لكنه يخفي وراءه مآسي إنسانية واقتصادية ضخمة. ويلعب الفيلم أيضًا على التكرار البصري والرمزي لبناء حس جمالي مركب تظهر في رموز مثل البنوك الزجاجية والسفن الغارقة والمكاتب اللامعة.. وهي كلها رموز لاستقرار شكلي يخفي اضطرابًا أخلاقيًا كبيرًا.

كما أن المشهد الأخير في الفيلم يشكل قفزة جمالية مزدوجة حين تخلع ميريل ستريب التنكر الذي ارتدته في أدوار ثانوية وتواجه الكاميرا مباشرة لتصرّح بموقف سياسي صريح تجاه النظام المالي العالمي. هذا التحول من التمثيل إلى الخطاب المباشر ومن الأداء إلى التصريح يمنح الفيلم بعدًا ميتا- جماليا يعكس وعيه بكونه عملًا فنيًا منحازًا لقضية محددة لا يخفي موقعه، بل يعلنه.

في المحصلة، هوية “The Laundromat” هي هوية مركبة ومقصودة تدفع المتفرج إلى إعادة النظر في مفهوم الفيلم السياسي والفيلم الوثائقي والفيلم الساخر في آن واحد. ويجمع الفيلم بين السرد المتشظي والخطاب النقدي والصورة الخادعة والتهكم اللاذع ليبني مشروعًا جماليًا وفكريًا يفضح بنية السلطة كما يعمل عليها لا كما تدّعي أنها تعمل.

“مغسلة الأموال”.. الخواء الأخلاقي

فيلم “The Laundromat”، الذي أخرجه ستيفن سودربيرغ، هو أكثر من عمل سينمائي عابر، هو مشروع فكري بصري يستبطن نقدًا حادًا للعالم المعولم عبر تفكيك منظومته المالية من الداخل كاشفًا الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والرمزية التي تحكم العلاقات بين الأفراد والمؤسسات من خلال قصة مستوحاة من فضيحة “وثائق بنما”. ويقدم الفيلم عوالم متشابكة ومتداخلة تشكّل مجتمعة بانوراما عن عصر تتداخل فيه السلطة بالمال، ويغيب فيه الإنسان أمام الأرقام والملفات.

ويتمثل البعد السياسي في الفيلم في فضح الطريقة التي تتواطأ بها الأنظمة القانونية والدولية مع المصالح الاقتصادية الكبرى، فشركة “موساك فونسيكا” لا تعمل في الظلام فقط، بل تجد في صمت الدول وانشغالها مصالح حقيقية في بقاء الوضع كما هو. كما أن كشف الفيلم لعلاقات النفوذ بين رجال المال والسياسة يُبرز كيف أن النظام السياسي في صورته المعاصرة فقد استقلاله الأخلاقي، وتحول إلى وسيط بين رأس المال ومجتمع هش لا يملك سلطة التأثير. تقول إحدى الشخصيات على لسان رامون: “ما هو القانون إن لم يكن أداة يملكها من يعرف كيف يستخدمه”. وتختزل هذه الجملة التحول العميق في دور القانون من كونه أداة للعدالة إلى أداة للمناورة وتبرير الفساد في ظل غطاء من الشرعية.

ويتجلى البعد الاجتماعي للفيلم من خلال استعراض شخصيات من طبقات اجتماعية مختلفة تتأثر جميعها، بشكل مباشر أو غير مباشر، بتعقيدات النظام المالي الحديث حيث تفقد إلين مارتن زوجها وتفاجأ بأن شركة التأمين مجرد قشرة قانونية. وهي ليست سوى نموذج للمواطن العادي الذي يصطدم بجدار البيروقراطية المصممة لتفشل في خدمته، بل ليظل خارج اللعبة تمامًا كما يقول موساك: “ما لا تراه هو الأهم والأقوى”. إن هذه الرؤية تعكس طبيعة المجتمع الذي تتسع فيه الفجوة بين من يملكون الأدوات ومن يستهلكون النتائج دون فهم النظام الذين يعيشون فيه.

أما البعد الاقتصادي للفيلم فهو المحرك المركزي لكل أحداثه، إذ يكشف الفيلم كيف يُستخدم الاقتصاد كأداة للسيطرة وليس للمشاركة، وكيف تتحول الأدوات المالية من وسائل تنمية إلى آليات للإقصاء والاستحواذ.

ومن خلال استعراض نماذج لشركات وهمية في مناطق نائية وشخصيات تبحث عن ملاذ ضريبي أو وسيلة لغسيل الأموال يرسم الفيلم خريطة خفية للعالم الاقتصادي الجديد.. عالم لا تحده الجغرافيا ولا القانون، بل تضبطه تحالفات نخبوية فوق وطنية تقوم على تبادل المنافع والتهرب من الرقابة. وهنا يأتي الاقتباس الذي يلخص الفكرة على لسان فونسيكا حين يقول: “لسنا من اخترعنا النظام، نحن فقط نعرف كيف نبحر فيه”. وهذا التصريح لا يبرئهم، بل يكشف كيف أن معرفة القوانين توازي قوتها، وكيف أن من يملك المعلومة يملك مفاتيح اللعبة.

ويتجلى البعد الرمزي للفيلم من خلال بنائه البصري والمكاني، الذي يصور عالم الشركات الوهمية كعالم نظيف ولامع، لكنه في جوهره خواء أخلاقي حيث السفن الغارقة والشركات الشفافة والمكاتب الزجاجية والمصطلحات القانونية.. وكلها رموز لحقيقة واحدة هي أن العالم الحديث يُدار من وراء ستار، وأن ما يظهر ليس سوى واجهة لحقيقة لا تُرى إلا إذا انهارت واجهتها الأولى. تظهر شخصية إلين مارتن أولًا كضحية، ثم تنقلب إلى شخصية كاشفة لتشكل رمزًا للمواطن العادي حين يستفيق من وهم العدالة المعلنة إلى واقع المافيا القانونية. تقول في أحد المشاهد: “كل ما أردته هو أن أفهم ما حدث، لكن ما وجدته كان شبكة بلا نهاية”. هذا التصريح يكشف التحول من الصدمة إلى الوعي ومن الفردية إلى النقد الرمزي.

ويُستكشف البعد النفسي للفيلم من خلال أثر هذا النظام على الأفراد، سواء من داخله أو خارجه. فالشخصيات التي تعمل في النظام، مثل موساك وفونسيكا، تبدو باردة وساخرة، لكنها تحمل توترًا داخليًا ناتجًا عن معرفتها بأنها تمثل جانبًا مظلمًا من العالم دون شعور بالذنب. في المقابل فإن الشخصيات المتضررة تعيش ارتباكًا نفسيًا ناجمًا عن عدم الفهم وعدم القدرة على المحاسبة. وينعكس هذا التوتر النفسي على أداء الشخصيات، وحتى على بنية السرد التي تتنقل باستمرار وتكسر الجدار بين التمثيل والحقيقة كأن الفيلم نفسه مأزوم ويحاول فهم ذاته كما تحاول شخصياته فهم النظام الذي دمر حياتها.

ويتجسد الخطاب النفسي أيضًا في حالة الإنكار التي يعيشها كثير من الشخصيات المستفيدة من النظام، فهي تبرر أفعالها بالحاجة والظروف والقانون وكأنها تهرب من مسؤولية أخلاقية أعمق. يقول موساك في لحظة مفصلية: “نحن لا نسرق أحدًا، نحن فقط نستثمر في جهلهم”. وترسم هذه العبارة معالم نفسية النظام المعاصر حيث لا مكان للذنب، بل فقط للذكاء والربح والقدرة على الاستفادة من القصور الجمعي.

ولا يكتفي الفيلم ومخرجه بفضح فساد مالي عالمي مستتر، بل يعيد رسم خريطة العالم الأخلاقي في ظل العولمة. ويضع المشاهد أمام أسئلة تتعلق بالعدالة والهوية والشرعية والانتماء. ويؤكد أن الفساد ليس حالة طارئة، بل هو بنية حاكمة تتغلغل في القانون والمال والسياسة واللغة، وحتى في الضمير الفردي والجماعي. وبذلك يصبح الفيلم شهادة على زمن يتحول فيه كل شيء إلى سلعة، ويُختزل فيه الإنسان إلى رقم داخل ملف يصعب تتبعه وتستحيل محاسبته.

فيلم “مغسلة الأموال”، في رحلته السردية، يكشف بشكل مباشر ومقصود ما وراء الستار، إذ تتوقف اللعبة السينمائية ليبدأ الخطاب السياسي العلني وتخرج ميريل ستريب من شخصيتها الدرامية لتخاطب الكاميرا والجمهور في لحظة تكسر فيها وهم التمثيل لتكشف حقيقة الفيلم كموقف لا كمجرد حكاية. وتنزع القناع عن النظام العالمي في ظل العولمة وتفضح التواطؤ الصامت بين رأس المال والسلطة القانونية، وتُظهر أن الخلل ليس في الأشخاص فقط، بل في البنية نفسها، وفي قوانين تُكتب لتُخترق، وفي نظام يُنتج اللامساواة كأمر طبيعي. ويتجاوز الفيلم في لحظته الختامية حدود الشاشة ويتوجه مباشرة إلى وعي المشاهد ليطرح سؤالًا جوهريًا: ماذا سنفعل بكل هذا الفساد حين نراه وجهًا لوجه؟ وهل نملك القدرة على تغييره، أم سنكتفي بفهمه والنجاة من آثاره؟ ليست نهاية الفيلم إغلاقًا، بل هي دعوة لإعادة التفكير والاشتباك مع واقع صار فيه الخداع مقننًا والشر مشرعنًا، وحين تقول الشخصية في المشهد الأخير بصوت ثابت: “القانون ليس ما يُطبق على الجميع، بل ما يُتاح للبعض تجاوزه” فهي لا تشير فقط إلى فساد شركة أو حكومة، بل إلى معضلة الإنسان المعاصر، الذي يواجه سلطة بلا وجه ونظامًا بلا مركز، عالم يُدار من خلف الأبواب المغلقة ويُترك فيه البسطاء ليجمعوا فتات العدالة.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا