أصدر الشاعر عبد السلام المساوي سيرته الروائية “الأشجار المحظورة” عن دار فضاءات الأردنية في 230 صفحة، فيما يمكن أن نسميه 33 فصلا؛ وهو الكتاب النثري الثاني بعد كتابه “عناكب من دم المكان”، الصادر سنة 2001. وما يلاحظه قارئ عبد السلام المساوي هو أنه متميز في القول النثري بنفس مستوى القول الشعري؛ وقد يكون نثره أقوى السرود المغربية شعرية، بسبب قدرة المساوي على المسك القوي بالجماليات البلاغية التي ترفع مستوى التلقي إلى ما فوق الأداء النثري المباشر الذي يسم السرد عادة.
لكني في قراءتي لهذا الكتاب لاحظت أن تذوقي له لم يكن بمذاق واحد. لذلك، قسمت إحساسي به إلى أنفاس، أحاول فيها أن أبيّن ما يفْرق بين نفَس وآخر، دون أن أصفها عن طريق أحكام قيمة. لكل نفَس قيمة لا تقل عن قيمة النفس الآخر. ولعل أي قارئ سيلاحظ أن صاحبنا طفلا، يعبر عنه السارد بشكل مختلف تماما عن صاحبنا الشاعر المعروف والفاعل التربوي والأستاذ الجامعي وعضو اتحاد كتاب المغرب؛ لأن حياة صاحبنا، إلى حدود تحمله مسؤولية الأسرة والتدريس، لا يعرفها إلا خاصة الخاصة. أما بعد ذلك، فإن الكثير من الناس أصبحوا يشتركون معه في تفاصيلها من أصدقاء وتلامذة وطلبة وقراء.
يمهد السارد لهذا النفس بزمن ما قبل ولادة صاحبنا، مركزا على الأم في علاقاتها بأسرتها وبظروف زواجها من الشيخ الغني إلى الفتى ابن السلطة والجاه والكلمة التي لا تسقط، هو والد صاحبنا الجامع بين زوجتين وبيتين. والظاهر أن ثروة “الفقيرة”، أمّ صاحبنا، هي التي أعفتها من تسلط الزوج وإلا كان جمعها بضرتها، فترى من الضرر ما لا تحتمله. وقد ظل صاحبنا على علاقة باردة بأبيه، الرجل المستقيم الحازم في تربية أبنائه حد القسوة، ورئيس المجلس القروي المؤْثر لغيره على نفسه، ولم يتم التقارب بينهما سوى في سن متقدمة حين كان يحتضر. عكس علاقته بأمه، التي ظلت “صُرّية” حتى بعد انفصال الجنين عن الأم.
في هذا النفس، يستطيع القارئ ملاحظة الذاكرة القوية التي لا تفلت صغيرة ولا كبيرة، تفاصيل يعجز العقل العادي على الاحتفاظ بها. يقول في الصفحة 29: “في بعض أيام الجمع، كانت تحضر سيدة غريبة: جسد ضخم أو خيمة متنقلة لكثرة ما كان يسربلها من فساتين، وكانت تشد وسطها بحزام عريض ومجسم كأنه عجلة من المطاط، وعلى رأسها ترتفع قبة من أغطية مزركشة…”
كما يذكر الكاتب الأزجال التي اندثرت منذ مدة بعيدة، يقول في الصفحة 29:
سعدات
للي جات فيه النوبة
ويشد السوارت
ويحل الباب
رجال الله عاونوني
رجال الله غيثوني
وفي هذا النفس يعلو السارد باللغة إلى ما لا يستطيعه النثر، فيضطر القارئ إلى إخراج أدوات التأويل وتخيل المعاني. يقول في الصفحة 46: “كان قمر الخميس يرسل جواسيسه الليليين، ويكنس غلالة سوداء ظلت تخفي باب الفضيحة المغلق على التهدجات. وفجأة، انبثق نحيب الباب مثل كمان متهدل الأوتار. ورأوا الذئب المعمم يتخطى العتبة، وعيناه تتحولان إلى جمرتين ووجهه يطول بشكل مخيف. بدا المشهد خرافيا، التفتوا إلى قميصه، لم يكن مقدودا من دبر كما كان يقرأ كل مرة يُدعى فيها إلى عقيقة أو جنازة. أرهفوا السمع، كان النشيج يأتي من وراء جدار الغواية محزونا. حينئذ، عرفوا أن القرية تستقبل لأول مرة فجرا مضمخا بالذنوب”.
في هذا النفس أيضا ينفتح باب سحري في لقاء صاحبنا بالمدرسة الابتدائية بعد سنوات الكُتّاب وعجائبه، المدرسة الابتدائية بعوالمها المذهلة، من خلال البرامج التعليمية التي تملأ الكتب بأحداث المدينة وصورها وعاداتها التي لا تمتلك “أيلة” شيئا منها.
من الولادة إلى نيل الشهادة الابتدائية نفس عميق من البراءة واكتشاف عالم الكبار بتفاصيل دقيقة تشد القارئ؛ لأن السِّير السابقة للكتّاب المغاربة قليلا ما اعتنت بتفاصيل الحياة في بداياتها، مع استثناءات قليلة.
حين ينتقل صاحبنا إلى الإعدادية وبعدها الثانوية، ينضج ويتسع استيعابه للعالم المحيط به، مع اعتبار عامل الاستقلال النسبي عن البيت، حين اضطر إلى السكن قريبا من المدرسة الإعدادية؛ لكن إفلاته من المراقبة اللصيقة لأبيه كادت تنتُج عنها انحرافات خطيرة في حياته، أكثرها حدة انقطاعه عن الدراسة، لولا أن الأب القاسي تدارك الأمر، فنجح صاحبنا لكنه ضيّع لوحة الشرف. ولم يكن تنقيله إلى مدينة مكناس ووضعه تحت مراقبة أخته المعلمة المتشددة حلا شافيا؛ بل زاد الطين بلة، فضيّع سنة دراسية هناك.
في هذا النفس نكتشف علاقة صاحبنا بالخرافات التي ملأت حياته، خاصة حين يكون السند صحيحا لا يناقش مثل خاله الذي لا يكذب. وربما استفاد من هذا الواقع الخرافي بأن مرّن مداركه على التخييل بشكل عميق ساعده في امتلاك ناصية الشعر بعد حين. كما أنه يكتشف الجنس لأول مرة في هذ المرحلة، حين كان ينام دون حرج مع صديقات أخته، نوما “بريئا” كشف له هذا العالم العجيب، جسد الأنثى، أي أن صاحبنا بدأ بالجنس قبل الحب العذري الذي يسقط فيه أغلب أترابه.
في تجربة القسم الداخلي بإحدى الثانويات بتازة “يترقى” إدراك صاحبنا، وتتوسع قراءاته وهواياته من سينما وموسيقى، نظرية وتطبيقا. كما أنه يتحول إلى آلة تحصيل ناجحة، داخل المقرر وخارجه، مستفيدا من التجارب القاسية التي مر منها، والتي رسمت له طريقا واحدا، طريق النجاح.
ينتقل صاحبنا إلى فاس، بحي السعادة، طالبا جامعيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز. ويبدأ عالم الطالب المجد الباحث عن إشباع رغباته الأدبية والمعرفية، مع الانتقال إلى الرغبة في القول الأدبي، شجعه في ذلك سماعه لقصيدته “ذكرى حب زائل” مذاعة بالمحطة الجهوية لوجدة، عبر برنامج شهير كان يعده الشاعر محمد بنعمارة، الذي ساعده في الإيمان بقدراته الإبداعية التي لم يفتر رواؤها منذ ذلك الزمن.
في هذا النفس تحتفظ لغة الشاعر بتماس شعري قوي، ينقل اللغة من النثر الإخباري إلى الإيحاء الشعري العميق. يقول في صفحة 85:
“ليت الذي شق الأزقة يعود ليرى عجز المصابيح الكهربائية عن رش العتمة بالضوء، وربما كان أجدى أن يعاد تأثيث هذه الفضاءات بالفوانيس…هكذا اريد للشمس أن تقف على أبواب المدينة كمتسول مهمل”.
يجمع صاحبنا بين الحب والدراسة، مكذبا يقين أبيه قبل وفاته “حبّان لا يجتمعان”؛ فعاش سنتين خطيبا وطالبا، ونجح في نيل شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها وفي تحويل خطبته إلى زواج مثالي أثمر عيشا جميلا وذرية طيبة إلى اليوم.
ثانية المسؤوليات تحملُّه مهمة التدريس بالمستوى الثانوي، والذي نتج عنه تأسيس الأسرة ماديا وعاطفيا، ثم مسؤولية الأطفال حين أنجب بنتا وثلاثة أولاد وقام رفقة زوجته بأداء الأمانة إلى آخرها.
الحياة المهنية والجامعية لم تتوقف عند صاحبنا، حتى حصل على الدكتوراه وانتقل إلى التدريس الجامعي إلى غاية تقاعده.
مسؤولية الكاتب فاعلا ثقافيا لم تتوقف أيضا، فقد أنتج أكثر من 13 كتابا، دون الصفحات الكثير التي بصم عليها في المجلات والجرائد الوطنية والعربية. كما أنه مر رئيسا ناجحا للمركز الجهوي للتوثيق والتنشيط والإنتاج في أكاديمية فاس، فأنجز فصولا رائعة من مهرجان الفيلم التربوي. ونسجل كذلك انخراطه المبكر في اتحاد كتاب المغرب، والذي، بالمناسبة، جر عليه ويلات حرب العراق وما تبعها، إذ كان ضحية لفخ أتقن وضعه اتحاد الكتاب آنذاك، بتحويله من متضامن مع صمود الشعب العراقي إلى ذرع بشري دون علمه، وكاد صاحبنا يفقد حياته يوما واحدا قبل هجوم بوش الصغير على صدام، ولولا تسلله إلى سوريا برا لكانت حاقت الكارثة بصاحبنا وبأسرته.
انشغل الراوي بالمسؤوليات الكثيرة وجعل لغته تشبه لغة الروائيين كما نعرفها، من لغة ممتعة مخادعة مراوغة، إلى لغة التأريخ ووصف الوقائع كما هي؛ لكن ذلك لا ينقص من قدرة عبد السلام المساوي على إمتاعنا برواية سيرية قل نظيرها في السِّيَر المغربية، وربما كانت الأكثر جرأة وصدقا إذا تجاوزنا صدق محمد شكري الاستثنائي. وأتمنى ألا يلومني عبد السلام المساوي إن كنت أقرأ “الأيام” لطه حسين بِجنون إلى اليوم، لكن، في حدود الجزأين الأول والثاني دون أن أقرأ الجزء الثالث. هي، إذن، إضافة نوعية للأدب الروائي السيري المغربي، تستحق أن تُقرأ بعناية وتأنٍ، لأن قراءتي السريعة لها ليست تحليلا نقديا وإنما هي مجرد تقديم للرواية.
في الأخير، أتمنى من عبد السلام المساوي أن يغامر بالتخييل الروائي، فإن أدوات الكتابة الروائية ملك يديه ولا ينازعه فيها روائي مغربي واحد.