آخر الأخبار

طيار هيروشيما الذي لم يندم.. كيف تقتل 140 ألف إنسان بلا رحمة؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

سينتهي وجود البشرية إذا ما استسلم الأفراد للطاعة العمياء، وضغطوا على الأزرار التي تأمرهم بالهلاك.


* الفيلسوف الألماني الأميركي إريك فروم

في تمام الساعة 2:45 من صباح 6 أغسطس/آب 1945، انطلق سرب من الطائرات من مطار نورث فيلد بجزيرة تينيان الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، وضم هذا السرب الطائرة الأميركية من طراز "بي-29" التي سُميت لاحقا "إينولا غاي". وبعد 6 ساعات من الطيران في جو صيفيّ هادئ، وصلت الطائرة إلى وجهتها فوق مدينة هيروشيما اليابانية.

بدأت الطائرة تلقي حمولتها فوق المدينة، هذه الحمولة لم تكن سوى قنبلة نووية أُطلق عليها "ليتل بوي" (Little Boy) أو "الولد الصغير"، كانت كافية لتحويل هيروشيما إلى ركام تنبعث منه رائحة الموت والدمار والخوف الذي امتد من المدينة اليابانية نحو سائر العالم.

هي لحظة واحدة، مجرد ضغطة زر، مجرد تنفيذ لأمر، لكنها استطالت وتعمقت لتصبح ندبة غائرة في جسد التاريخ، وغيّرت معها تاريخ الحروب الحديثة، وأدخلت العالم عصر الأسلحة النووية المرعب، لا كفكرة، بل كتجربة ميدانية على أجساد وأرض وأرواح.

لم يتمكن طاقم الطائرة "إينولا غاي" ورفاقهم من استيعاب ما حدث، ففي غضون ثوان قليلة اختفت مظاهر الحياة تدريجيًا تحت عمود هائل من الغاز والغبار والدخان، له قلب أحمر ناري ارتفع نحو 40 ألف قدم فوق سطح الأرض، وكان وهج الانفجار شديدًا إلى درجة أن بعض أفراد الطاقم اعتقدوا أنهم أصيبوا بالعمى، وعندما نظروا إلى الأسفل وجدوا الحرائق تشتعل في كافة أنحاء المدينة.

بعد سنوات، سيدوّن المشاركون في تلك العملية مشاعرهم التي وصفوها بـ "المختلطة" عن تلك اللحظة الدموية المدمرة. بعضهم سيعبّر عن الندم الشديد، مثل الرائد كلود إيثرلي، قائد طائرة الاستطلاع الجوي التي دعمت قصف هيروشيما. وقد عانى إيثرلي طوال حياته من نوبات هلع متكررة جعلته عاجزًا عن النوم، تطارده كوابيس عن نساء وأطفال تلتهمهم النيران.

إعلان

وعلى خلاف إيثرلي، التزم أغلب أفراد الطاقم الأميركي طوال حياتهم تقريبا بالسردية الرسمية للأحداث، وعلى رأسهم قائد المهمة الطيار بول وارفيلد تيبيتس، الذي صرح في فيلم وثائقي أنه نظر من شباك الطائرة ورأى القنبلة التي خلّفت وراءها سحابة سوداء تشبه فطر "عيش الغراب"، ودُفنت تحتها مدينة هيروشيما المنكوبة.

في تلك اللحظة، يذكر تيبيتس أنه أدار الطائرة في انعطافة حادة وقام بمناورة الهروب التي كان يتدرب عليها منذ شهور، لم يفكر في مصير من هم على الأرض، لم يشعر بتأنيب الضمير، ولم يندم قط على إلقاء أول قنبلة ذرية في التاريخ، بل على العكس من ذلك، أمضى 62 عامًا من حياته يدافع عن إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما وناغازاكي ، مبررًا ذلك بأنه "لا أخلاق في الحرب".

من طبيب إلى طيار هيروشيما

ليلة الهجوم على هيروشيما، وبينما كان الفريق منهمكًا في التجهيز لأداء المهمة، نزل بول تيبيتس إلى مكان تجمع الطائرات وخطّ اسم والدته "إينولا غاي" على جانب القاذفة الأميركية الأكثر تطورا آنذاك "بي-29".

ستشارك " إينولا غاي " بعدها بعدة أيام ضمن سرب الطائرات المكلف بالهجوم على ناغازاكي، ليظل هذا الاسم مرتبطًا للأبد بالحرب العالمية الثانية وعمليات إلقاء القنابل الذرية، حيث تُعرض الطائرة حتى اليوم ضمن المقتنيات الأثرية في مركز "أودفار هازي" التابع للمتحف الجوي الفضائي الأميركي في ولاية فيرجينيا، وما زال اسم "إينولا غاي" مرسومًا على جانبها.

حين سُئل تيبيتس في أحد الحوارات عن السبب الذي جعله يكتب اسم والدته على الطائرة، قال إن والده بول وارفيلد تيبيتس أراد له أن يصبح طبيبًا، ورفض تشجيعه على ترك دراسة الطب والالتحاق بأحد مدارس الطيران، فكانت والدته "إينولا غاي" هي من شجعه على متابعة حلمه، ولهذا السبب أطلق اسمها على الطائرة التي قادها نحو هيروشيما، وذلك لإيمانه العميق بأن الطائرة سينالها جزء من شهرة الهجوم الذري، فكانت تلك طريقته في تكريم والدته.

ولد بول وارفيلد تيبيتس الابن في 23 فبراير/شباط 1915، بولاية إلينوي وسط غرب الولايات المتحدة، وبعد عدة سنوات انتقلت العائلة إلى مدينة ميامي بولاية فلوريدا، حيث قضى تيبيتس أغلب سنوات نشأته.

يحكي تيبيتس في مذكراته المنشورة عام 1978 بعنوان "قصة تيبيتس"، كيف بدأ شغفه صغيرًا بمهنة الطب، حيث كان يقضي فصول الصيف في مزرعة جده بولاية أيوا، وهناك افتتن بمتابعة عمليات ولادة الحيوانات وعلاجها. أما المثير للغرابة فكان ذكره أن رؤية الدم في هذه السن الصغيرة لم تسبب له أي نوع من الانزعاج.

كان ذلك قبل أن يكتشف لاحقًا أن الإثارة التي تقدمها مهنة الطب لا تقارن بالمشاعر الغامرة التي يوفرها التحليق في الهواء، ففي سن الثانية عشرة، وأثناء عمله ضمن حملة ترويجية لأحد مصانع الحلوى، جلس الشاب اليافع في المقعد الأمامي لطائرة تحلق على ارتفاع منخفض وتسقط قطع الحلوى بالمظلات على الجماهير.

شعر تيبيتس وكأنه أمير يركب بساطًا سحريًا، ومنحته التجربة إحساسًا لم يختبره من قبل بالمتعة والإثارة، والأهم من ذلك شعورًا بالتفوق على الجنس البشري، مثل بذرة مبكرة لطبيعة شخصية مثيرة للجدل.

إعلان

في عام 1937، سيترك بول تيبيتس دراسته لينضم إلى سلاح الجو الأميركي، وسرعان ما أظهر الشاب موهبة استثنائية في الطيران جعلته يشق طريقه ويتدرج في المناصب والرتب، حتى إنه تولى قيادة سرب القنابل رقم 340 لمجموعة القصف رقم 97 في أغسطس/آب 1942، ليشارك تيبيتس بعدها في الغارات الجوية على الأهداف الألمانية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قاد 12 طائرة من طراز "بي-17" وشارك في عشرات العمليات القتالية.

وكانت تلك هي الفترة التي أهلته فيما بعد ليتولى مسؤولية التحليق بالقاذفات الأميركية الأحدث في العالم من طراز "بي-29" أو "سوبر فورتريس" (Superfortresses).

قضى تيبيتس عامين يتدرب على طائرة "بي-29″، وهو ما مكنه من تجربتها بكل الطرق الممكنة، حتى أصبح بشهادة قائد القوات الجوية الجنرال هنري هاب أرنولد، أفضل طيار في سلاح الجو الأميركي.

وبحلول أغسطس/آب 1944، استدعي تيبيتس لمقابلة العقيد جون لانسديل، مسؤول الأمن والاستخبارات في مشروع مانهاتن (مشروع إنتاج القنبلة الذرية الأميركي)، وذلك في اجتماع حضره قائد القوات الجوية الثانية الجنرال أوزال جيرارد إنت ، والقائد البحري ويليام ديك بارسونز الذي شغل منصب المدير المساعد لمختبر "لوس ألاموس" التابع للمشروع، وإلى جانبهم العالم الأميركي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1989، نورمان رامسي.

خلال هذا الاجتماع سيجري إطلاع بول تيبيتس على الدور الخاص الذي سيلعبه داخل مشروع مانهاتن، وفي الوقت الذي يعمل فيه العلماء على تطوير أول سلاح ذري أميركي، سيعمل تيبيتس على التخطيط وتدريب الطاقم المناسب من الطيارين وقاذفي القنابل وعاملي الرادار، من أجل تسليم هذا السلاح إلى وجهته الأخيرة.

مهمة سرية في مشروع مانهاتن

"تعلمت أن أكون أفضل كاذب في العالم"


* بول تيبيتس

حتى ساعة الصفر، كان تيبيتس الوحيد بين أفراد طاقمه المطلع على طبيعة السلاح الذي سيستخدم في الهجوم على هيروشيما، فقد التقى 3 مرات بمدير مشروع مانهاتن، الفيزيائي الأميركي جي روبرت أوبنهايمر، الملقب "أبو القنبلة الذرية"، كما شرح له الفيزيائي رامسي كيف أن هذه القنبلة تنفجر بقوة تعادل 20 ألف طن من مادة "تي إن تي" المتفجرة. ورغم إدراكه للأعداد الهائلة من الضحايا المدنيين، قبِلَ بأداء المهمة دون تردد.

كان تيبيتس، وعمره آنذاك 29 عاما، مبهورًا بالسلطة التي مُنحت له في هذه السن الصغيرة، فاختار الطاقم "الأفضل" لمشاركته في أداء المهمة، مثل قاذف القنابل الرائد توماس فيريبي، والملاح الجوي ثيودور فان كيرك.

وفي قاعدة ويندوفر الجوية المهجورة بولاية يوتا، اجتمع أفراد الطاقم وخضعوا للتدريب على مناورات الطيران ومحاكاة القصف. وتميزت تلك الفترة الشاقة بإجراءات أمنية مشددة، ويصف تيبيتس هذه التجربة قائلًا إنها علمته كيف يصبح كاذبًا محترفًا، حيث لم يكن يُفترض أن يعلم أي شخص طبيعة العملية التي كُلف بها، هذا الأمر دفعه لأن يمارس الكذب على مدى 10 أشهر، كان يضطر خلالها لاختلاق الأحداث التي سيحكيها لزوجته وأفراد عائلته.

كان التحدي الأكبر الذي واجهه تأهيل طائرة "بي-29" لتصبح قادرة على حمل قنبلة مدمرة تزن 10 آلاف رطل، ولهذا عمل تيبيتس على ابتكار طرق جديدة من أجل تخفيف وزن الطائرة.

وفي 6 أغسطس/آب 1945، صعد تيبيتس إلى قمرة القيادة، تغمره أضواء الكاميرات لتوثيق هذه اللحظة التاريخية، ابتسم الطيار الشاب ملوحًا بيديه، في حين اجتمع أفراد الطاقم لالتقاط الصورة الأخيرة أمام "إينولا غاي". كانوا جميعًا يشعرون وكأنهم نجوم في افتتاح أحد الأفلام الهوليودية، لم يسبق لبول تيبيتس أن شعر بمثل هذه القوة.

مصدر الصورة صورة لطاقم "إينولا غاي" قبل الإقلاع للهجوم الأول بالقنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس/آب 1945 (غيتي)

بعد إقلاع الطائرة سيجمع تيبيتس أفراد طاقمه ليخبرهم عن سر القنبلة الذرية. وتشير رواية شائعة أنه وزع على رجاله قبل انطلاق الرحلة كبسولات مادة "السيانيد" السامة، كما تلقى تعليمات بإطلاق النار على أي رجل يرفض الانتحار في حال فشل الهجوم، حيث لم يكن يُفترض أن يقع أفراد الطاقم في الأسر.

إعلان

استغرقت عملية القصف بأكملها 7 دقائق، وانفجرت القنبلة بعد 43 ثانية من إسقاطها، وبعدما تجاوزت "إينولا غاي" مرحلة الخطر، زف مسؤول الاتصالات اللاسلكية "رسالة النصر" عبر موجات الراديو إلى السلطات الأميركية، ويقال إن الرئيس هاري ترومان تلقى هذه الرسالة وهو عائد من أوروبا، وقد تهللت أساريره بما اعتبره أعظم خبر في التاريخ.

في طريق العودة، نام تيبيتس قليلا، حيث كان مستيقظًا من الليلة السابقة، في حين أطبق الصمت والصدمة على أفراد طاقم الطائرة، وذلك حتى وصلوا إلى جزيرة تينيان، حيث استقبلهم القادة والجنود استقبال الأبطال احتفالا بنجاح أول عملية قصف ذري.

شرب الجنود ورقصوا وشاهدوا فيلما سينمائيا، وقد صرح بعضهم أن انغماسهم في مظاهر الاحتفال لم يكن إلا للهروب من هول المشهد، فقد تفحم أقرب الناس إلى نقطة الانفجار، واختفت المدينة بالكامل عن وجه الأرض، ولقي 70 ألف ياباني حتفهم جراء الانفجار الأوّلي للقنبلة.

وفي الأسابيع التالية للهجوم، تزايدت أعداد القتلى الناجمة عن التسمم الإشعاعي حتى بلغت بحلول نهاية العام إلى 140 ألفا، بخلاف 70 ألفًا آخرين قتلوا في ناغازاكي.

لم يزر بول تيبيتس مدينة هيروشيما ثانية، ومع ذلك -وربما بدافع الفضول- ذهب لمعاينة الدمار في مدينة ناغازاكي المنكوبة بعد استسلام اليابان، وهناك شاهد عن قرب ما يمكن أن تفعله القنبلة الذرية على الأرض. وبعد انتهاء الحرب، عاد معظم أفراد طاقم "إينولا غاي" إلى ديارهم، حيث تزوجوا وأسسوا عائلات وانخرطوا في الحياة المدنية، واعتبرهم أغلب الأميركيين أبطالا.

هكذا، وتنفيذا "للأوامر"، وفي 7 دقائق مثّلت المدة الكاملة للعملية، قُتل أكثر من 140 ألفا. تنفيذا للأوامر، يصبح القاتل في عُرف الوطن بطلا، وتنزاح عن كتفيه ورأسه أعباء الدم المسفوك والدمار الذي ستمتد ندوبه لأجيال.

لم يكن فرعون ليصبح من هو، دون جنود يُذبّحون الأطفال ويستحيون النساء، ودون سَحرةٍ يهيمنون على عقول الناس بنشر الوهم وبث الرعب في قلوب الناس. ولم يكن لقصة أصحاب الأخدود أن تجري دون جنود يحفرون الخنادق، وآخرين يشعلون النار، بينما يراقب صاحب الأمر مُحتفيا بقوته وجبروته.

ويتقادم الزمن، وتعيد السنن دورتها، فالقاتل، وجنوده، والضحايا، حاضرون مهما اختلفت الجغرافيا وتغير الزمان وتغيّرت المبررات.

عالم ما بعد القنبلة الذرية

بالعودة لعقلية الجندي، يرى تيبيتس نفسه عسكريًا منضبطا تربى على اتباع القواعد وتشبّع بأفكار الدفاع عن الوطن، فكان قرار إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما بالنسبة إليه واجبًا وطنيًا أنهى الحرب وجلب السلام إلى العالم.

وقد كانت سردية تيبيتس للأحداث تحاكي الخطاب الأميركي الشائع الذي روّج -بتبجح يحسد عليه- للقنابل الذرية باعتبارها الطريقة الأكثر إنسانية لإنهاء الحرب وإنقاذ ملايين الأرواح من الأميركيين واليابانيين على حد سواء.

تأثر هذا الخطاب الأميركي بشكلٍ كبير بالمقال البارز الذي نشره السياسي والمحامي الأميركي هنري ستيمسون في مجلة "هاربر" عام 1947 بعنوان "قرار استخدام القنبلة الذرية"، الذي وضع الأسس الأولى لما أصبح فيما بعدُ السردية الرسمية للأحداث.

مصدر الصورة المحامي الأميركي هنري ستيمسون هو الذي وضع الأسس للرواية التي تبنتها أميركا لتبرير قصفها اليابان بالقنبلة النووية (غيتي)

شغل ستيمسون منصب وزير الحرب مرتين، الأولى بين عامي 1911 و1913، والثانية بين عامي 1940 و1945. وأثناء توليه المنصب، عيّنه الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1941 ضمن اللجنة المختصة بتطوير سلاح ذري والتي عرفت بعد ذلك باسم "مشروع مانهاتن".

اعتمدت تبريرات ستيمسون لاستخدام الولايات المتحدة القنبلة الذرية على نقطتين محوريتين؛ الأولى هي الأرواح التي "أنقذتها" القنابل الذرية بإنهاء الحرب وعدم الاضطرار إلى غزو اليابان، دون الالتفات إلى الأرواح التي أزهقت بفعل هذه الأسلحة المدمرة.

والنقطة الثانية كانت المجادلة بأن اليابانيين كانوا مصممين على القتال حتى اللحظات الأخيرة، وبالتالي لم يكن أمام الولايات المتحدة أي خيار آخر سوى اختصار أمد الحرب بهذه الطريقة.

وقد صُممت هذه التبريرات لإراحة ضمير الأمة الأميركية من تبعات هذه الكارثة، وقد استمر بول تيبيتس في ترديدها حتى نهاية حياته لإقناع نفسه.

آتت الدعاية أكلها في البداية على ما يبدو، بعدما أيد غالبية الشعب الأميركي قرار قصف هيروشيما. وذكر تقرير المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية أن الأميركيين لم يكترثوا كثيرًا لمصير اليابانيين، حيث كان القصف المروع للمدن إحدى سمات هذا العصر، كما أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "غالوب" الدولية في أغسطس/آب 1945، أن 85% من الأميركيين أيدوا قرار القصف من منطلق اعتقادهم بأن هذا القرار قادر على وضع أوزار الحرب العالمية الثانية.

إعلان

لكن بعدما هدأت زهوة النصر، وتسربت الصور الأولى لضحايا القصف الذري المروع على هيروشيما، خيّمت نبرة شك على الجو العام في المجتمع الأميركي، حيث أدرك العسكريون والمدنيون -على حد سواء- ما الذي يعنيه أن تكون هناك قنبلة واحدة قادرة على محو مدينة كاملة عن وجه الأرض، وأن تمتلك البشرية سلاحًا قادرا على تدمير الحضارة الإنسانية بضغطة زر.

في ذلك الوقت، أشعل دخول العصر الذري حربًا ثقافية حول "المعضلة الأخلاقية" لحيازة الأسلحة النووية واستخدامها، فقد أطلق الجنرال الأميركي المتقاعد دوغلاس ماك آرثر، على قنبلة هيروشيما اسم "وحش فرانكشتاين"، نسبة إلى رواية الرعب الشهيرة التي ألفتها الكاتبة البريطانية ماري شيلي في القرن 19، وألقت الضوء على الوجه الأسود للعلوم الحديثة من خلال قصة طبيب شاب عاكف في مختبره الصغير، وبدلًا من أن يقدم هذا الطبيب إنجازًا علميًا يفيد البشرية، صنع كائنًا مشوهًا ووحشًا مدمرًا، لتتنبأ شيلي عام 1818 بعالمٍ جديد تسيطر فيه العلوم والتكنولوجيا على البشر، وتتسبب في نهاية المطاف بالقضاء على إنسانيتهم.

ناقش عالم النفس والفيلسوف الألماني الأميركي، إريك فروم، هذه المعضلة باستفاضة في مقال نشره عام 1963 بعنوان "العصيان كمشكلة نفسية وأخلاقية"، معترفا أنه بينما يدخل العالم عصر الذرَّة، لا تزال نفوس مَن هم على رأس السلطة عالقة في العصر الحجري، وتتحكم فيها الأهواء البدائية الدنيئة، مثل الكراهية والجشع والرغبة المدمرة في الانتقام.

نشر فروم مقاله في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ، حين تراكمت أعداد الرؤوس النووية على الجانبين وتزايدت التهديدات باندلاع حرب عالمية ثالثة، الأمر الذي دفعه للتصريح بأن البشرية لو كُتب عليها أن تفنيَ نفسها عبر حرب نووية، فسيكون السبب في ذلك وجود أشخاص عازمين على الانصياع الأعمى لأوامر السلطة، حتى عندما يأمرونهم بالضغط على أزرار الدمار.

على مدار السنوات التي تلت الحرب، تعرضت السردية الأميركية لانتقادات لاذعة، وقد فندها المؤرخون والقادة العسكريون (وبعضهم في الولايات المتحدة نفسها) الذين شككوا في جدوى القصف قائلين إنه لم يكن ضروريًا لإنهاء الحرب، وبالتالي لا يمكن اعتباره مبررًا أخلاقيًا.

على سبيل المثال، أكد القائد البحري الأدميرال إرنست جوزيف كينغ، أن حصار اليابان جويًا وبحريًا كان كافيًا لإجبارها على الاستسلام، فاليابان كانت قد هُزمت بالفعل قبل الهجوم، ووصل أسطولها وسلاحها الجوي إلى أضعف حالاته.

كما أشار الأدميرال ويليام إف بول هالسي، أحد أشهر قادة البحرية الأميركية، أن القنبلة الذرية بالنسبة للعلماء كانت مجرد لعبة جديدة أرادوا تجريبها. وقد امتلك الأدميرال وليام دي ليهي، الجرأة الكافية لأن يصف المعايير الأخلاقية لاستخدام القنبلة النووية في هيروشيما بأنها بلغت مرحلة متدنية أشبه بتلك التي كانت سائدة عند برابرة عصور الظلام.

أشارت العديد من الأدلة التاريخية الحاسمة في دار المحفوظات الأميركية واليابانية إلى أن الرئيس ترومان وغيره من صناع السياسات في الولايات المتحدة، كانوا على دراية تامة بأن اليابانيين مستعدون للاستسلام قبل إسقاط القنبلة الذرية، وذلك إذا مُنحوا شروطًا جيدة أهمها عدمُ المساس بالإمبراطور أو محاكمته وإعدامه، وذلك نظرًا للمكانة الكبيرة التي يتمتع بها في المجتمع الياباني، وبالفعل عرض اليابانيون على الاتحاد السوفياتي التدخل للوساطة مع دول الحلفاء في يوليو/تموز 1945، وهو ما يدحض الحجة الرئيسية التي استخدمت في تبرير استخدام القنابل الذرية.

بل إن وزير الخارجية السوفياتي الأسبق فياتشيسلاف مولوتوف، ذهب إلى أبعد من ذلك في تصريحاته، إذ قال إن قصف هيروشيما وناغازاكي -مع أنه يبدو موجهًا إلى اليابان- كان في حقيقة الأمر موجهًا ضد الاتحاد السوفياتي بهدف إظهار القوة الأميركية وإرساء القواعد الجديدة لعالم ما بعد الحرب، وهو أمر تناوله أيضا المؤرخ غار ألبيروفيتز في كتابه الصادر عام 1965 بعنوان "الدبلوماسية الذرية"، مشيرا إلى أن قرار إلقاء القنبلة الذرية بهدف الإنهاء الفوري للحرب جاء لتجنب التدخل السوفياتي الواسع في منطقة الشرق الأقصى، كما حدث في دول أوروبا الوسطى والشرقية.

معضلة "أنتيغون" الأخلاقية

"إذا أردت أن تخوض حربًا عليك أن تخوضها للفوز، هذا جوهر اللعبة" بول تيبيتس

في مقاله سابق الذكر، استشهد الفيلسوف وعالم النفس الأميركي إريك فروم، بإحدى روائع الشاعر اليوناني القديم سوفوكليس، وهي مسرحية "أنتيغون" التي أعاد المؤلف والمخرج برتولد بريشت كتابتها عام 1945، وفيها واجهت ابنة الملك أوديب أزمة أخلاقية حادة، تمثلت في الحكم الذي أصدره الملك كريون في حق أخيها الميت، آمرًا بألا يدفنه أو يبكيه أحد، وأن يُترك فوق التراب لتأكل جثمانه الطيور الجارحة وتنهشه الكلاب.

هذا الحكم غير الإنساني جعل أنتيغون طوال الأحداث ممزقة في اختيار قاس بين الانصياع للسلطة العليا -التي يمثلها "صوت الملك"- من أجل إنقاذ نفسها، أو الاستماع إلى صوت ضميرها ومواجهة مصيرها المحتوم بشجاعة. فما كان من ابنة أوديب إلا أن ذهبت لتنثر التراب فوق جثة أخيها، ضاربة بأوامر الملك عرض الحائط، فقدمت بذلك نموذجا للتمرد على الحاكم، والانتصار للمبادئ الإنسانية وصوت الضمير.

هذه المعضلة تتقاطع مع الطريقة التي برر بها الطيار الأميركي بول تيبيتس سلوكه أثناء الحرب، فقد صرح غير مرة أن قضية أخلاقية القنبلة الذرية من عدمها لا تعنيه، مبررًا ذلك بأنه لم يكن الشخص الذي صنع القنبلة أو أمر بإسقاطها، بل كان مجرد فرد يطيع الأوامر، وهو ما يلقي الضوء على الطريقة التي رأى بها تيبيتس نفسه باعتباره أداة في يد السلطة، ويثير العديد من التساؤلات حول النقطة التي ينبغي عندها التوقف عن "طاعة رمز السلطة"، والانتصار بدلا من ذلك للأخلاق وقانون الضمير الإنساني.

قسّم فروم الطاعة إلى نوعين: طاعة ذاتية (Autonomous Obedience)، تتجلى عندما يطيع المرء قانونًا أخلاقيا نابعًا من داخله، وطاعة أخرى موجهة من قبل سلطة خارجية تعمل على تجريد الفرد من استقلاليته بهدف التحكم به وتوجيه سلوكياته نتيجة للخوف أو الضغوط الخارجية.

وبالمثل، تباين مفهوم الضمير عند فروم، بين "الضمير الإنساني" الذي يعبّر عن الحدس الفطري ويجعل الإنسان قادرًا على التمييز بين الأفعال التي تتوافق مع القيم الإنسانية وتلك التي تناقضها، وبين "الضمير السلطوي" الذي يتماهى فيه الصوت الداخلي للإنسان مع صوت السلطة العليا التي يتوق إلى إرضائها ويخشى عقابها.

وفي بعض الحالات، تختلط تلك الأصوات داخل الوعي البشري، فلا يعود الإنسان قادرًا على التمييز بشكلٍ واعٍ بين ضميره الإنساني وصوت السلطة الخارجية.

على نحو مشابه، فسّرت باحثة الأنثروبولوجيا تين مولينديك، المتخصصة في دراسة تأثير البيئة الحربية والعسكرية على السلوك، هذا النهج المتبع في التنصل من المسؤولية بإلقاء العبء الأخلاقي على السلطة؛ بأنه أحد الطرق المتبعة في التأقلم لدى الجنود المحاربين، حيث يتبرؤون بهذه الطريقة من سلوكياتهم خلال الحرب بدعوى أنهم مجرد أدوات في يد السلطة ويتبعون التعليمات، وبالتالي فمن وجهة نظرهم لا يمكن تحميلهم مسؤولية أفعالهم، بل ويؤمن أغلبهم بأن تجاهل نداءاتهم الداخلية والانصياع لتعليمات الرؤساء جزءٌ لا يتجزأ من واجبهم العسكري.

وفي ورقة بحثية نشرتها مولينديك عام 2023، استخدمت مصطلح "الإصابة الأخلاقية" أو "الجرح الأخلاقي"، الذي صاغه الطبيب النفسي الأميركي جوناثان شاي عام 1994، وذلك لتفسير الضرر النفسي الناجم عن ارتكاب الجنود أفعالا تنتهك القيم الأخلاقية ومعتقدات الفرد، خاصة في أوقات الحروب التي يضطر فيها الجنود العسكريون للتصرف بطريقة تتناقض مع القيم الإنسانية أو "الضمير الأخلاقي".

مصدر الصورة أغلب المحاربين عادة ما يميلون إلى اختلاق مبررات تعمل على إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعالهم (بيكساباي)

أبرزت الباحثة الدور المحوري الذي يلعبه التدريب العسكري في تخفيف الموانع الأخلاقية للقتل، من خلال تعزيز مفاهيم مثل طاعة أوامر رمز السلطة، وتقديم المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية، مشيرة إلى أن الجنود العسكريين عادة ما يلجؤون إلى اتباع استراتيجيات خاصة للتأقلم بهدف تخفيف حدة المعضلات الأخلاقية التي يواجهونها في ساحة المعركة.

ومن ضمن هذه الاستراتيجيات، تجاهل مشاعرهم الداخلية، وتجنب التفكير في الضحية أو التعاطف معها، بل واعتبر أغلبهم أن الانفصال العاطفي والأخلاقي جزء من صميم عملهم العسكري ودليل على الاحتراف وحسن السلوك، وهو ما يفسر طريقة تفاخر بول تيبيتس بعدم الشعور بالندم، بل والقدرة على النوم براحة نفسية، مبررًا ذلك بقوله "لقد تعودت عندما أقرّر عدم التفكير في شيء، أن أمحوه من ذهني".

كانت طبيعة شخصية تيبيتس مسار جدل بين العديد من الباحثين والكتاب، فبينما اعتبره البعض شخصًا قاسيًا ومتحفظا وعنيدًا، رفض بتعنتٍ واضح الفرص العديدة التي منحت له عبر السنين لإظهار إنسانيته، يُرجح آخرون أنه تعلم كيف يخفي شعوره بالندم. يقول عنه أستاذ التاريخ ومدير معهد الدراسات النووية بالجامعة الأميركية، بيتر كوزنيك، إنه لا أحد يجزم -بالتحديد- هل كان شخصًا بارد المشاعر حقًا، أم أنه احترف إخفاء صراعاته الداخلية حتى لا يشعر بالندم.

في عام 1985، كتب الصحفي الأميركي ديفيد رمنيك، مقالا عن تيبيتس نشرته صحيفة "واشنطن بوست" بعنوان "هيروشيما بلا ندم"، ذكر فيه أن طيار هيروشيما رغم مرور 40 عامًا على الواقعة ما زال يرد على الانتقادات التي توجّه له بجملة واحدة: "لم أشعر بالذنب، لم أتردد لحظة واحدة، لقد أدت القنبلة مهمتها وأنهت الحرب".

وفي عام 1989، عندما ظهر بول تيبيتس في فيلم وثائقي شارك في إنتاجه بالتعاون مع دار نشر أميركية متخصصة في مجال الطيران، تحت عنوان "تأملات حول هيروشيما"، سأله المذيع توم رايان عما إذا كانت نظرته للقنبلة الذرية والحرب قد تغيرت بمرور السنين، أجاب تيبيتس برد قاطع أنه ظل طوال حياته فخورًا بإنجازاته.

تشبث تيبيتس إذن بسرديته المقتضبة عن قصة الحرب، حتى بعدما تكشفت الحقائق التاريخية بمرور الوقت وأثبتت الأدلة أن إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي لم يكن ضروريًا لإنهائها. وقد وصف مؤلفا كتاب " هيروشيما في أميركا.. 50 عاما من الإنكار " الذي نشر عام 1995، الطبيب النفسي روبرت جاي ليفتون، والصحفي غريغ ميتشل، هذا السلوك بأنه نوع من "التخدير النفسي"، وقالا إن رفض تيبيتس الاعتراف بالندم لا ينمّ إلا عن محاولاته الجاهدة لدرء مشاعر الذنب، نتيجة إحساسه بضرورة التغلب على مشاعره وعدم التعاطف مع ما يحدث على الأرض.

بالعودة إلى باحثة الأنثروبولوجيا، تقدم مولينديك مقاربة أخرى تدور حول "التبرير العقلاني لفعل القتل"، قائلة إن أغلب المحاربين عادة ما يميلون إلى اختلاق مبررات تعمل على إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعالهم، وذلك حتى لا تهتز صورتهم الخاصة عن أنفسهم كأشخاص أخلاقيين.

وتخلص في دراستها إلى أن العسكريين حين يصطدمون بموقف أخلاقي معقد يعمل على إثارة الصراعات الداخلية في أعماق نفوسهم، عادة ما يلجؤون إلى استراتيجية هروب، يقسمون خلالها ذواتهم إلى أجزاء منفصلة لكلٍ منها سياقها الخاص، ويعملون على تفعيل هذه الهُويات المتنافرة وفقًا للظروف وما تقتضيه الحاجة، إذ توفر لهم استراتيجيات مثل الإنكار والاستخدام المرن للتبريرات؛ وسيلة فعالة للتحايل على أنفسهم ومواجهة المعضلات الأخلاقية العصية على الحل.

طوال حياته، لم يشكك تيبيتس -ولو للحظة واحدة- في معتقداته، بل كان مؤمنًا بأن الأمم المتحاربة ستستخدم أي أسلحة تمتلكها، وأن المرء يدخل الحرب للفوز بها بأي وسيلة، لذا عليه أن ينحّي مسألة الأخلاق جانبًا، وقد قال صراحةً إنه لو وُضع في نفس الظروف مرة ثانية، لفعلَ الأمر ذاته.

وذهب إلى أبعد من ذلك برفضه نزع الأسلحة النووية بشكلٍ قاطع حتى لو تكلف الأمر إراقة الدماء، مبررًا ذلك بأن الولايات المتحدة عليها أن تحافظ على تفوقها النووي الذي يشكل ضمانة رئيسية من أجل الردع وعدم الاضطرار إلى خوض حرب كبرى واسعة.

ربما كانت تصريحات تيبيتس القاسية هذه، هي ما جعله يخشى الدفن في مقبرة عامة، فقبل وفاته بعامين، صرح بأنه لا يريد شاهدا على قبره أو أي شكل من أشكال التكريم في مكان دفنه، بل أراد أن تحرق جثته وينثر رمادها في مياه "القناة الإنجليزية"، وهي المكان الذي أحب الطيران فيه، وذلك خشية أن يصبح شاهد قبره نقطة تجمع للنشطاء من معارضي استخدام الأسلحة النووية، أو مكانا للاحتجاج والتظاهر.

وبالفعل، عندما توفي الطيار الأميركي بول تيبيتس يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 عن عمر يناهز 92 عامًا، امتثلت العائلة لوصيته، لينتهي الحال بطيار هيروشيما بلا قبر، تماما كما اختار أن يعيش حياته الطويلة بلا ندم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا