دمشق – بعد سقوط النظام السوري السابق ودخول سوريا مرحلة التعافي، وبعد أن قضت الحرب والفساد والعزلة الممنهجة المصحوبة بالعقوبات الاقتصادية على منظومة الاقتصاد السوري بكل مقوماته الطاقية والمالية والمصرفية وحتى البشرية، جاءت مذكرات التفاهم الاستثمارية التي تم الإعلان عنها خلال الشهور الأخيرة مع العديد من البلدان وفي مجالات مختلفة كخطوة واسعة المدى على درب إعادة الإعمار والنهضة المعيشية للمواطن السوري والبلد بأكمله.
وفي العرف الاقتصادي، فإن مذكرات التفاهم تبقى مذكرات مكتوبة لفترة زمنية معينة وليس بالضرورة أن تتحول كلها إلى اتفاقيات تُطبق فعليا، ولتأتي أُكلها الاستثماري تحتاج إلى شروط مختلفة تحددها إرادة المستثمر التي تُبنى عادة على الثقة وعلى طبيعة البلد المُستَثمر فيه والإمكانيات المتاحة للمستثمر للبدء وكذلك التسهيلات، ومن هنا يأتي السؤال: ما سبب تأخر الاستثمارات وتدفق السيولة المالية إلى سوريا؟
يمكن القول إن هناك عوامل عديدة حالت دون تحويل مذكرات التفاهم التي تم توقيعها إلى اتفاقيات، وبما أن الاستثمار والأمن صنوان لا يفترقان، فإن المستثمر سواء أكان محليا أم أجنبيا فهو يبحث أولا عن البيئة المستقرة والآمنة، وهنا لا نقصد بالبيئة الآمنة تحوّل البلد من بؤرة الحرب إلى حالة الصفاء الاجتماعي فقط، وإنما البيئة التشريعية الناظمة للقوانين الواضحة والمنفتحة على دول العالم من دون قيود واشتراطات تعيق تدفق رؤوس الأموال، بمعنى أن تكون بيئة جاذبة لأي مستثمر خالية من العقوبات والعقبات.
وعلى ما سبق يفنّد المحلل الاقتصادي الدكتور علي محمد، في حديث للجزيرة نت، أهم أسباب تأخر الاستثمارات وتدفق السيولة المالية إلى سوريا فيقول:
وبالحديث عن واقع العمل الاستثماري، يُطرح سؤال ما الذي يؤخر تدفق الاستثمارات وعودة السيولة النقدية إلى سوريا؟ فقد وجدت بعض الاستثمارات بالفعل طريقها في سوريا وبخاصة الاستثمارات السعودية والقطرية وحتى بعض الشركات التي بدأت باستقطاب العديد من الكفاءات والخبرات السورية للبدء بتنفيذ المشاريع على أرض الواقع، في حين بدأت شركات أخرى بالعمل على تحسين البيئة التحتية الملائمة لاستهلال مشاريعها المتفق عليها مع الحكومة السورية. ورغم ذلك، تقف استثمارات أخرى على العتبة في انتظار حلول لعقبات البنى التحتية والعقوبات الاقتصادية وسواها.
وعلى اعتبار أنه لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في بلد عُزل مدة طويلة عن العالم وتحول إلى محمية بشرية مغلقة قاتلة لأهلها عوضا عن حمايتهم، فلا يمكن تصور نجاح أي شأن استثماراتي دون الوصول إلى كيان بشري واحد متآلف، وضمان حالة ثقة متوازنة بين النسيج السوري أولا، وبين سوريا مع العالم الخارجي أيضا، وهو ما تعمل عليه الحكومة السورية جاهدة من ضبط للأمن والعمل على كشف حالات الفساد والرشوة، والوصول إلى نظام مؤسساتي مبني على تنوع الكفاءات وفاعليتها وضمان وجود الشخص المناسب في المكان المناسب. وعليه يوضح أمجد اسماعيل الآغا الكاتب والباحث ونائب رئيس مجلس النهضة السوري التالي:
الحديث عن الاستثمارات في سوريا يبدو أنه بوابة قد تُشكل المفتاح الأساسي لتحقيق ما يريده السوريون حيال التعافي الاقتصادي والنهضة المعيشة، أو بداية لمسارٍ منظم يهدف إلى إعادة بناء الواقع السوري بكل مستوياته بعد سنوات طويلة من الصراع والدمار، بيد أن هذه الصورة الزاهية تصطدم بحقيقة ماثلة على الأرض، حيث لا يمكن فصل المشهد الاقتصادي عن التعقيدات السياسية والأمنية التي لا تزال تفرض نفسها بقوة، وتمنع تأسيس بيئة مستقرة تنطلق منها الاستثمارات بشكل حقيقي ومستدام.
ورغم توقيع عقود واتفاقيات ضخمة، وهو ما اعتبر مؤشرا على انفتاح الاقتصاد، فإن الأمر لا يتعدى كونه أمرا رمزيا، خاصة في ظل غياب ضمانات تطبيقية وعدم توفر بيئة عمل مستقرة، وسط استمرار التقلبات الأمنية وعدم وضوح المشهد السياسي وتأخر إعادة الإعمار الحقيقي. فاستعادة الاقتصاد لا تُقاس فقط بمليارات الأموال المتداولة، بل بمدى قدرة المنظومة السياسية على توحيد الرؤى وإرساء أسس التوافق الوطني الذي يواكب إعادة بناء مؤسسات الدولة وتوزيع السلطات بشكل عادل ومستدام.
في المقابل تنطوي عملية إعادة الإعمار على ما هو أكثر من مجرد أموال وجهود تقنية. إنها عملية سياسية بامتياز تستدعي إرادة حقيقية على مستوى حكم الدولة، ترتكز على مشروعية تشاركية تضمن حقوق كافة المكونات الاجتماعية وتتيح مشاركة فعالة في إدارة الاقتصاد والمجتمع. وعليه، تعثر التسوية السياسية والمصالحة الوطنية ينعكس مباشرة على عرقلة التحسن الاقتصادي، ويطيل أمد حالة الانقسام وعدم الاستقرار التي تخيم على المشهد.
ويؤكد الآغا أن التأخير في استعادة الاقتصاد السوري لا يمكن اختزاله في عامل الوقت فقط، بل هو تعبير عن إعادة تأسيس مشددة للنظام السياسي وإقامة ترتيبات وطنية تضمن استقرار الدولة وشمولية التنمية، إلى جانب تأثير مباشر للبيئة الإقليمية والدولية التي تحيط بسوريا والتي تتحكم بحجم الدعم الاقتصادي والسياسي المتاح.
ولهذا، تبقى العلاقة بين الاقتصاد والسياسة مفتاحا لتفسير واقع التأخر حيال تفعيل الاستثمارات بمعناها الواقعي والحقيقي وكذا تأخر تدفق السيولة المالية، حيث يجب أولا إزالة العوائق السياسية الكبرى بما يشمل بناء توافقات وطنية، وتعزيز شفافية الحوكمة، وتحسين مقومات الإدارة، قبل أن يكون الحديث بجدية عن إطلاق استثمارات فعلية تقود البلاد نحو تعاف اقتصادي مستدام.
ومما سبق يمكن التأكيد على أن تسهيل تدفق الاستثمارات وعودة السيولة النقدية يحتاجان مسارا اقتصاديا إصلاحيا مبنيا على قوانين واضحة ومقترن بإعادة هيكلة البنى التحتية لتصبح قادرة على استيعاب الاستثمارات وجذبها، إضافة إلى ذلك إرساء الثقة المجتمعية والأمنية التي توفر بيئة صحية للمستثمر وتعطي ثقة للعالم، تُفضي إلى إلغاء أي عقوبات تعيق الحركة النقدية من وإلى سوريا.
المصدر:
الجزيرة