مرت خمس سنوات منذ أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي جائحة كوفيد 19 في 11 مارس/آذار عام 2020.
اتخذت الحكومات حينها تدابير غير مسبوقة، وضعت 2.6 مليار إنسان في حالة إغلاق، وجعلتهم يعيشون ظروفاً تشبه الحجر الصحي القسري لفترات تصل إلى عدة أشهر في كل مرة.
وقد أدى الفيروس إلى إصابة أكثر من 777 مليوناً، وتسبب في وفاة أكثر من سبعة ملايين، وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية. وتقدر الأمم المتحدة أن الوفيات المرتبطة بالوباء تصل الآن إلى 15 مليوناً.
ولا تزال العواقب المدمرة للوباء تتكشف في جميع أنحاء العالم، لكن بعض المحللين يشيرون إلى عدد من الدروس الإيجابية التي ظهرت من فترة حالكة الظلمة من تاريخ الكوكب.
إلكي فان هوف، المتخصصة في الإجهاد والصدمات، وأستاذة علم النفس الصحي سابقاً في جامعة فريجي في بروكسل، ببلجيكا، تصف عمليات الإغلاق بأنها "أكبر تجربة نفسية في التاريخ".
استغرق العلماء تسعة أشهر فقط للتوصل إلى لقاح فعال لمكافحة فيروس سارس-كوف-2، وذلك باستخدام التكنولوجيا التي أحدثت ثورة في تطوير اللقاحات في جميع أنحاء العالم.
وقام الباحثون على مدى سنوات بدراسة استخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) لعدة سنوات كآلية فعالة لتطوير برامج اللقاحات الجماعية، لكن جائحة كوفيد 19 أدت إلى التعجيل بتطويره.
والحمض النووي الريبوزي المرسال هو جزيء ينقل الشفرة الجينية من الحمض النووي إلى الخلية لتصنيع البروتينات المسؤولة عن تنفيذ وظائف الجسم.
واستخدمت الأبحاث التي أجرتها شركة فايزر بالولايات المتحدة، بالتعاون مع شركة بيونتيك في ألمانيا، وموديرنا بالولايات المتحدة، آلية الحمض النووي الريبوزي للخروج بلقاحاتهم في وقت قياسي، ما سمح للملايين بتلقي جرعات تقيهم أشد أخطارهذا الفيروس.
وكانت مارغريت كينان، وهي امرأة تبلغ من العمر 90 عاماً من المملكة المتحدة، أول إنسان في الغرب يتلقى جرعة معتمدة من اللقاح في 8 ديسمبر/كانون الأول 2020. وقد حصل العالمان اللذان توصلا إليه، وهما كاتالين كاريكو ودرو فايسمان، على جائزة نوبل للطب في عام 2023.
ووصفت الدكتورة مارغريت هاريس، خبيرة الصحة العامة في منظمة الصحة العالمية، هذا السباق للتوصل إلى لقاح، بأنه أحد أعظم النتائج الإيجابية للجائحة، قائلة: "لقد شهدنا تقدماً تكنولوجياً بسرعة لا تصدق".
وأضافت لبي بي سي: "كانت تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال معروفة بالفعل، لكننا نراها الآن تُستخدم لإحراز تقدم من نوع آخر كلقاحات السرطان".
وقالت الأستاذة ديفي سريدهار من جامعة إدنبرة ومؤلفة كتاب "يمكن الوقاية منه: كيف غيرت جائحة العالم؟ وكيفية إيقاف الجائحة التالية؟"، إن الدروس المستفادة من الجائحة دفعت إلى سبر أغوار كيفية تفشي الفيروسات الجديدة.
وأضافت: "لقد تحسنت قدراتنا العلمية، وأصبحت منصاتنا تتقدم يوما عن يوم؛ فإذا كان سؤالنا في بداية الوباء حول إنتاج لقاح، فإن السؤال الآن هو ما مدى السرعة التي يمكننا بها إنتاجه؟".
وهناك دروس أخرى في كيفية الاستعداد بشكل أفضل للوباء التالي، بحسب سريدهار، التي أوضحت ذلك بأن البلدان التي "يبدو أنها حققت أداءً أفضل، هي تلك التي كان سكانها يتمتعون بصحة أفضل قبل الوباء".
كان لإغلاق المدارس عواقب كارثية على الأطفال في جميع أنحاء العالم، بحسب مرسيدس ماتيو، رئيسة قسم التعليم في بنك التنمية للبلدان الأمريكية (IDB)، على رأسها الزيادة الهائلة في معدلات التسرب والتأخر في تلقي التعليم، على المستويين الابتدائي والثانوي، ما يعد من أعمق الآثار التي خلفتها الجائحة.
وعلى الرغم من النكسات، ترى ماتيو تحولاً إيجابياً في النظر إلى التعليم، قائلة "كان هناك بلا شك تأثير في غاية الإيجابية في نقل المناقشة حول التعليم إلى القرن الحادي والعشرين، لإعادة التفكير في أنظمة التعليم".
وأوضحت ماتيو لبي بي سي أنه "خلال الجائحة، بات من الواضح أن قطاع التعليم كان من بين القطاعات الأقل رقمنة"، مع قدر كبير من المقاومة لتغيير هذا بأي شكل من الأشكال، لكنها ترى أن كوفيد 19 فرض المسار نحو تعليم أكثر مرونة، يجمع بين التعلم على الإنترنت والدراسة في الصف.
ونتيجة لذلك، توارت فكرة استخدام الفصول الدراسية حصرياً كمساحة مادية وثابتة للتعليم، بحسب ماتيو.
كما زاد إغلاق الفصول الدراسية من أهمية قطاع التعليم في الأجندة السياسية للبلاد.
وعلاوة على ذلك، ترى ماتيو أن الوباء خلق وعياً أكبر بالدور الذي تلعبه المدارس في المجتمعات الحديثة.
من أخطر عواقب كوفيد 19، موجات فقدان الوظائف السريع التي أعقبها معاناة من الفقر. كما أدى الوباء إلى انضمام عدد أقل من الشباب والنساء إلى سوق العمل، ما يظل أحد أعظم التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي.
ويقول غيرسون مارتينيز، المتخصص في اقتصاديات العمل في المكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، إن أحد الدروس المستفادة من فترة الوباء هو أن سياسات حماية العمالة والدخل، مثل العطلات مدفوعة الأجر، ساعدت في تخفيف وطأة التباطؤ. ولا شك أن هذه الاستراتيجيات زادت من سرعة التعافي الاقتصادي.
وفي حين انتعشت سوق العمل بسرعة نسبية، يحذر أحدث تقرير لمنظمة العمل الدولية من أن هذا الانتعاش بدأ يتراجع بسبب الضغوط الاقتصادية كالتوترات الجيوسياسية وتغير المناخ وارتفاع الديون الوطنية.
ولربما كان التحول الأوضح في مكان العمل هو الاتجاه إلى العمل عن بُعد والعمل الهجين الذي يخلط بين العمل من المكتب ومن المنزل. وعلى الرغم من أن العديد من الشركات العالمية تدفع الآن من أجل العودة الكاملة إلى العمل وجهاً لوجه، إلا أن الأدلة على فوائد الإنتاجية للعمل الهجين ملتبسة.
تقدمت العديد من الحكومات بتشريعات بشأن العمل عن بُعد، على سبيل المثال، تتضمن مرونة أكبر بالإضافة إلى قوانين "الحق في الانفصال عن بيئة العمل" في دول أخرى مثل أيرلندا وفرنسا.
وعلاوة على ذلك، يرى مارتينيز أن الثورة التكنولوجية التي أحدثتها الجائحة، قدمت كذلك "فرصة ذهبية" لتسريع الإنتاجية، كاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين العمل في الصناعات المختلفة.
أدى الإغلاق العام والانعزال في المنزل، وعدم اليقين، والشعور بالوحدة، والخوف والقلق الذي انتشر في جميع أنحاء العالم إلى جعل مجرد العيش خلال الوباء تجربة صادمة في حد ذاتها.
وأجرت منظمات مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الصحة للبلدان الأمريكية، دراسات متعمقة حول زيادة اضطرابات الاكتئاب والقلق وانتشار السلوكيات والأفكار الانتحارية في أعقاب الوباء.
ومع ذلك، فبالنسبة لعالمة النفس لورا روخاس ماركوس، المتخصصة في القلق والتوتر والاكتئاب، فقد أثر الوباء على "ذاكرتنا العاطفية وطريقة تعاملنا مع الآخرين. وكان نقطة تحول، ليس فقط في المعاناة، بل وأيضاً في التعلم".
وتقول إننا الآن أكثر وعياً بأهمية الاعتناء بصحتنا العقلية، "ليس كشيء منفصل عن الجسم، بل كشيء وثيق الصلة".
وتضيف: "اغتنم الناس الفرصة لمراجعة حياتهم، وتعلموا عدم النظر إلى الآخرين وإلى بيئتهم وحتى وجودهم ذاته كأمر مسلم به".
وقد توصلت دراسة أجريت عام 2022 بتكليف من خدمة بي بي سي العالمية من "غلوب سكان"، إلى أن نحو ثلث من شملهم الاستطلاع في 30 دولة، شعروا بتحسن عما كانوا عليه قبل الوباء.
وذكر العديد منهم أنهم أضحوا يقضون وقتاً أطول مع العائلة؛ ويتمتعون بتواصل أفضل بمجتمعهم والطبيعة، مع وضوح أكبر فيما يتعلق بأولوياتهم بشكل عام. وكان لهذه التحولات تأثير إيجابي على نطاق واسع، وفقاً للبيانات.
كما حفزت الأزمة تغييراً جذرياً ودائماً في كيفية تقديم علماء النفس للعلاج، مع اعتماد واسع النطاق على مكالمات الفيديو. وقد سمحت هذه المرونة للمعالجين بالوصول على سبيل المثال إلى الجنود الأوكرانيين في خضم الحرب، أو الوصول إلى المرضى في المناطق النائية.
كما جعلنا الوباء نتوقف ونفكر ملياً في المرونة والرحمة الإنسانية، وهما قضيتان أساسيتان في حياتنا كبشر، وفقاً لروخاس ماركو، مضيفة أن مبادرات التضامن الإنساني كانت لحظات مشرقة في خضم المأساة.