في مكاتب شركة سامسونغ للإلكترونيات خارج العاصمة الكورية سيول، وبينما كانت عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل، عاش مهندس الرقائق هان كي باك لحظة صادمة لا تُنسى.
فقد شاهد زميلته تنهار فجأة بعد شهور من العمل المضني والسهر المتواصل.
يقول هان، في حديثه لموقع "ريست أوف وورلد": "كنت قد فقدت صوابي من فرط التعب... كل ما استطعت فعله هو الجلوس والتساؤل: ماذا أفعل؟".
رغم مرور سنوات على هذه الحادثة، لا يزال هان، الذي شغل سابقًا منصب رئيس نقابة العاملين في "سامسونغ"، يواصل السهر لساعات متأخرة خلال مواسم الضغط.
وبينما تتسارع وتيرة سباق الرقائق عالميًا، يصف فريقه الهندسي بأنه "أقل كفاءة مما مضى"، حيث أُضيفت إليه مهام مضاعفة دون زيادة في الموارد البشرية.
وفيما تنزف "سامسونغ" من داخلها، بدأ العديد من مهندسيها في مغادرة الشركة، بحثًا عن بيئة عمل أفضل، ورواتب ومكافآت مجزية.
أكّد عشرة مهندسين، حاليين وسابقين، أن موجة النزوح تتجه نحو شركات منافسة مثل "SK Hynix" الكورية، و"إنتل" و"ميكرون" الأميركيتين، بل وحتى شركات صينية صاعدة.
ويشتكون من ثقافة عمل مرهقة، ومكافآت أقل، ونقص حاد في الموظفين.
في أروقة "سامسونغ"، تنتشر مقولة غير رسمية بين المهندسين: "نعمل هنا لفترة... ثم نغادر".
هذه الكلمات تلخص مزاجًا عامًا داخل الشركة التي كانت تُلقّب بـ"أرض الأحلام".
تُعدّ رقائق "سامسونغ"، خاصةً شرائح الذاكرة عالية النطاق الترددي، حجر الأساس في تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، على غرار أجهزة "إنفيديا".
لكن في مطلع هذا العام، فقدت "سامسونغ" ريادتها لصالح منافستها "SK Hynix"، بعد ثلاثة عقود من التفوق.
وعلى مستوى أعمال المسابك، التي تنتج الرقائق لحساب شركات أخرى، تخسر "سامسونغ" أمام العملاق التايواني "TSMC"، الذي يهيمن على ثلثي السوق العالمي.
وتكبدت "سامسونغ" في 2023 خسائر بلغت 2.4 مليار دولار في قطاع الرقائق والمسابك.
وصفت "سامسونغ" أزمتها بأنها "مسألة حياة أو موت"، وفقًا لما أعلنه رئيس مجلس إدارتها لي جاي يونغ.
وبدأت الشركة تحقيقات داخلية لمحاولة تحسين أداء وحدات أشباه الموصلات.
في مذكرة داخلية، أقر رئيس قطاع الرقائق، جون يونغ هيون، بأن ثقافة العمل داخل الشركة تعاني من "التستر على المشاكل والإبلاغ المضلل عن خطط مبنية على تفاؤل مفرط"، وهي عوامل قال إنها فاقمت الأزمة.
ورغم تصريحاتها بشأن "تعزيز ثقافة عمل صحية"، يصف العاملون بيئة العمل بأنها طاردة للمهندسين الموهوبين، الذين أصبحوا يخططون لمغادرة الشركة فور توظيفهم، مدفوعين بإرهاق مزمن، وأجور لا تتماشى مع الجهد المبذول.
يشير مهندسون إلى أن الرواتب والمكافآت لم تعد جاذبة كما في السابق، لدرجة أن بعض المديرين يشجعون أعضاء فرقهم على التقديم في شركات منافسة.
يقول تشو، أحد المهندسين الشباب: "مديري قال لي بوضوح: لماذا لا تتقدمون إلى SK Hynix؟ ارحلوا من هنا بسرعة!".
ويضيف تشو أنه يعمل حاليًا على إعداد خطاب التقديم مع زملائه، بعد شهور من تغطية أربع وظائف شاغرة داخل فريقه.
وفي ظل غياب المكافآت – التي انخفضت بنسبة 72% في العام الماضي – أصبحت الرغبة في البقاء شبه معدومة.
يؤكد هان وعدد من المهندسين أن الشركة تُجبر الموظفين على تسجيل ساعات العمل الإضافية تحت بند "الوقت غير العملي"، لتجنب تجاوز الحد الحكومي البالغ 52 ساعة عمل أسبوعيًا.
ويقول هان: "نعمل ساعات طويلة بلا أجر. الأمر أصبح مُنهكًا ومجحفًا".
في المقابل، أفاد متحدث باسم وزارة العمل الكورية بأنهم لم يتلقوا أي شكاوى رسمية من عمال الرقائق، رغم علمهم بانتهاكات مشابهة في أقسام أخرى داخل "سامسونغ".
من جهة أخرى، يشير خبراء إلى أن أزمة "سامسونغ" تعود إلى الثقافة التنظيمية البيروقراطية التي تطورت على مدى سنوات.
ووفقًا لأستاذ الإدارة "كيم يونغ جين"، أصبحت "سامسونغ" بطيئة في الابتكار، تعتمد على تسلسل هرمي جامد، وأهداف أداء غير واقعية تُفرض من الأعلى إلى الأسفل.
ويؤكد مهندسون أن المدراء يُجبرون على تقديم نتائج وردية حتى لو كانت البيانات الحقيقية مغايرة، وهو ما أدى إلى تزوير التقارير، والمبالغة في معدلات النجاح، والتقليل من شأن العيوب.
يقول "إيم"، مهندس معدات يبلغ من العمر 28 عامًا: "قدّمتُ تقريرًا حقيقيًا فأمرني مديري بإعادة كتابته... بعدها قمنا بتعديل البيانات".
ووسط النقص الحاد في الموظفين، تُجبر الفرق على العمل في ظروف خطيرة. أحد المهندسين يعمل وحيدًا في نوبات ليلية رغم أن البروتوكولات تشترط وجود مهندسين اثنين.
يركض ليلًا بين المعدات الثقيلة لمراقبة الروبوتات وفحص الأنظمة.
ويحذر من أن هذه الظروف قد تؤدي إلى حوادث وعيوب في الإنتاج.