في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كشفت دراسة فرنسية للمومياوات الفرعونية عن واحدة من أغرب المفارقات في التاريخ القديم، والتي كان بطلها البحر الميت، ذلك المسطح المائي العجيب الذي له من اسمه نصيب، حيث لا حياة تدب في مياهه المالحة، وكان في المقابل مصدرا لواحدة من أهم المواد التي منحت الصمود للمومياوات الفرعونية، فظلت باقية لآلاف السنين، متحدثة عن أحد أهم معالم الحضارة المصرية القديمة "التحنيط".
ومنذ بدأ العلماء يفحصون المومياوات المصرية القديمة حيرتهم المادة السوداء التي تغلف الأجساد، لتثير لديهم تساؤلات عن توصيفها والمواد التي دخلت في تصنيعها وأسباب استخدامها، وجاءت الدراسة الفرنسية التي قادها البروفيسور ديدييه جورير من معهد أبحاث الكيمياء بباريس، والمنشورة في دورية "جورنال أوف أناليتكال أتوميك سبكتروميتري" لتجيب ليس فقط عن هذه الأسئلة، لكنها ذهبت لأبعد من ذلك، اكتشاف أن أحد أبرز مكونات تلك المادة ليس من أرض مصر.
وقبل هذه الدراسة كان المتوفر عن تلك المادة أنها خليط من الزيوت والشمع، لكن الجديد الذي تم إثباته بالوسائل العلمية أنها تحتوي أيضا على "الذهب الأسود" أو ما يعرف بـ"البيتومين". والمدهش أن التحاليل الدقيقة كشفت أن مصدره يأتي من البحر الميت الذي يبعد مئات الكيلومترات شرقا.
والبيتومين مادة سوداء لزجة تشبه القطران، تتكون طبيعيا من تحلل المواد العضوية على مدى ملايين السنين، وتستخرج غالبا من رواسب النفط أو توجد في الطبيعة على شكل كتل أو طبقات، كما هو الحال في البحر الميت.
ويتميز النوع المستخرج من البحر الميت بغناه بعنصر "الفاناديوم" الذي تبلغ نسبته إلى النيكل ما بين 0.5 و0.2. أما الزيوت والبيتومينات من مناطق أخرى بالشرق الأوسط فتظهر تباينا كبيرا في محتوى النيكل والفاناديوم، وتختلف نسبتهما عن تلك الخاصة بالبحر الميت. لذلك استطاع الباحثون الإثبات بما لا يدع مجالا للشك أن البيتومين المستخدم في المومياوات المصرية مصدره البحر الميت، كما يؤكد البروفيسور جورير من معهد أبحاث الكيمياء بباريس، في تصريحات خاصة للجزيرة نت.
ويقول جورير "كل المومياوات التي قمنا بدراستها تقريبا كانت تحمل بصمة بيتومين البحر الميت، وما يعزز دقة تحليلنا أن فريقنا يدرس حاليا مومياء بشرية تحتوي على بيتومين لا يتطابق مع تركيب البحر الميت، من حيث نسبة الفانديوم والنيكل".
ويشير إلى أن الصراعات الإقليمية ربما تسببت أحيانا في تعطيل الإمدادات، مما اضطر المصريين للجوء إلى مصادر بديلة "كما تثبت المومياء التي نقوم بدراستها حاليا" لكن كان البحر الميت بشكل عام هو المصدر الإستراتيجي للمصريين القدماء، وربما كان أحد أسباب ذلك هو سهولة جلب البيتومين من هناك، حيث كانت كتله تطفو على سطح الماء مما جعل استخراجها سهلا نسبيا.
ويضيف أن "تجارة بيتومين البحر الميت لم تكن مجرد تجارة، بل كانت قضية إستراتيجية دفعت المصريين إلى محاولة السيطرة على المنطقة وضمان استمرار وصولهم إليها".
ولم يلاحظ الباحثون أي تغيرات في تركيبة البيتومين المستخدم ضمن المادة السوداء، سواء فيما يتعلق بالعمر الزمني، أو الموقع الجغرافي (صعيد مصر مقابل شمالها) أو نوع الطيور المحنطة، وكذلك المومياوات البشرية.
ويقول جورير إن "الاستخدام الموحد لبيتومين البحر الميت ربما يشير إلى ممارسات طقسية موحّدة أو معتقدات دينية مشتركة في مناطق مختلفة من مصر، فرغم أن المصريين القدماء لم يكشفوا عن وصفات أو تقنيات التحنيط التي استخدموها، فإن وجود كمية صغيرة من بيتومين من نفس المصدر في كل المومياوات يوحي بوجود وصفة موحدة نسبيا".
ويثق البروفيسور في دقة نتائجهم وما توصلوا له في الدراسة، مشيرا إلى أن التقنيات التي استخدموها، وهي "انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون" و"الرنين المغناطيسي الإلكتروني" تتميز بكونها غير مدمرة (العينة تظل سليمة) وسهلة التنفيذ (القياسات مباشرة) مما يضمن تكرار النتائج، والأهم من ذلك أنها تعطي نتائج كمية دقيقة.
ويقول أيضا "هذا يميزها عن التقنية الأكثر شيوعا سابقا في دراسة المادة السوداء في المومياوات، وهي الكروماتوغرافيا الغازية الموصولة بمطياف الكتلة، حيث تتطلب التقنية الأخيرة عدة خطوات لفصل المواد كيميائيا (وهي تقنية مدمرة) ويمكن أن تؤثر تلك الخطوات على النتائج إذا اختلفت بين العينات، وقد أدت هذه الصعوبة إلى جدل طويل في الماضي حول وجود أو عدم وجود البيتومين في المومياوات، كما أن هذه التقنية ليست كمية".
ويضيف أن "ما توصلنا له في هذه الدراسة شجعنا على استخدام نفس التقنيات، لدراسة مومياء بشرية جميلة من العصر المتأخر في قصر اللوفر، وتتميز بأنها مغطاة بالكامل بطبقة نقية من البيتومين، وهو أمر فريد من نوعه حسب معرفتنا، لكن هذا البيتومين لم يكن من البحر الميت، ونحن الآن بصدد كتابة المقال العلمي المتعلق بهذه الدراسة".
ويشرح جورير آلية عمل الأدوات المستخدمة في الدراسة، موضحا أن أداة انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون تعتمد على تسليط حزمة دقيقة من البروتونات (وهي جسيمات مشحونة) على العينة. وعندما تصطدم هذه البروتونات بذرات العناصر داخل المادة، تحدث "اهتزازا" في الذرات مما يؤدي إلى إطلاق أشعة سينية ذات طاقات مميزة لكل عنصر، ومن خلال قياس هذه الأشعة السينية يمكن للعلماء معرفة أي العناصر موجودة في العينة وبنسب دقيقة.
أما "الرنين المغناطيسي الإلكتروني" فهو جهاز يشبه أذنا حساسة تلتقط الهمسات المغناطيسية الصادرة عن بعض الجزيئات داخل المواد، مما يساعد العلماء على تحديد نوعها ومصدرها دون الحاجة لتدمير العينة.
ويقول جورير إنه "من خلال فحص 14 مومياء لطائر (سباع الجوارح وأبو منجل) من فترات مختلفة (من حوالي 1077 ق.م إلى 476 م) وعينات من مومياوات بشرية، وكبش، وتمساح، استطعنا تحديد أن المادة المومياوات السوداء تتكون من راتنجات نباتية، وشمع النحل، ودهون حيوانية، وزيوت نباتية، والبيتومين".
ويضيف "استطعنا أيضا تحديد نسبة عنصري النيكل والفاناديوم، وهما عنصران مهمان يستخدمان بصمة لتحديد مصدر البيتومين، واكتشفنا أن نسبة النيكل إلى الفاناديوم تتطابق مع النسب الموجودة في بيتومين البحر الميت، مما يعني أن المصريين القدماء استوردوه من هناك".
ومن المفاجآت أيضا التي كشفت عنها الدراسة أن بعض العينات حملت آثارا تشير إلى تعرضها للحرارة، مما يدل على أن عملية التحنيط ربما شملت تسخين المواد أو استخدامها بعد معالجتها بالنار، وهو أمر يفتح الباب لتفسير جديد لطقوس التحنيط.
وعندما يتعرض البيتومين للحرارة تتغير بنيته الداخلية، وبالتالي تتغير الإشارات المغناطيسية التي ترصدها أداة "الرنين المغناطيسي الإلكتروني" وقد لاحظ الباحثون في بعض العينات تراجعا في الإشارة المغناطيسية أو تغيرا بطبيعتها، مما يشير إلى أنها تعرضت لتسخين أو معالجة حرارية.
كما أن التعرض للحرارة قد يتسبب في تغير نسب العناصر أو يكون سببا لفقدان بعض المركبات الطيارة، وقد لاحظ الباحثون باستخدام أداة "انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون" أن بعض العينات اختلفت نسب المعادن فيها عن المعتاد، مما يدعم فكرة أنها تعرضت لحرارة.
وبهذا الكشف المهم، لم يكتف العلماء -بقيادة البروفيسور جورير- بفك شفرة مادة سوداء عمرها آلاف السنين، بل أعادوا رسم صورة مدهشة لمجتمع قديم لم يكن منغلقا بل كان منفتحا على العالم، وحريصا على اختيار أدق المواد للحفاظ على أجساد أحبائه في رحلتهم عبر الزمن.