أثار إصدار مجلس النواب قانونًا يقضي بسداد الدين العام، ردود فعل متباينة في الأوساط السياسية والاقتصادية الليبية، بين من يهوّن آثاره ويراه خطوة لا مفر منها لتطبيع الوضع المالي، ومن يحذّر من تبعاته الخطيرة على الاقتصاد الوطني والمواطن، معتبرًا أنه يشرعن ديونًا تراكمت في ظل غياب الرقابة والمساءلة.
303 مليارات
واعتمد مجلس النواب الدين العام المصرفي القائم على الخزانة العامة حتى عام 2025 بقيمة بلغت 303 مليارات و441 مليون دينار.
وأوضح المجلس، وفق ما نُشر في الجريدة الرسمية، أن هذا الدين يشمل سندات وأذونات الخزانة العامة، والعوائد المحتسبة لصالح مصرف ليبيا المركزي بعد تسوية السندات لدى المصارف التجارية، إضافة إلى السلف المؤقتة والقروض الحسنة الممنوحة من المصرف المركزي، فضلًا عن رصيد الحساب المعلّق لديه.
خصم 3%
وبحسب المادة الثانية من القانون، خُوّل مصرف ليبيا المركزي إطفاء الدين من خلال خصم 3% من إجمالي إيرادات الخزانة العامة المتأتية من النفط والغاز ومشتقاتهما، إلى جانب الخصم من فائض حصة الخزانة العامة من أرباح المركزي.
كما نصّ القرار على الخصم من رصيد حساب الرسم الإضافي المتأتي من عوائد الرسوم المفروضة على مبيعات النقد الأجنبي، ومن احتياطي إعادة التقييم الناتج عن تغير سعر صرف الدينار، إضافة إلى صافي ناتج الأصول الأجنبية.
لا اقتراض دون قانون
وشدّد مجلس النواب في القانون على عدم جواز الاقتراض الداخلي أو الخارجي، أو إصدار أي ضمانات مالية ترتّب التزامات جديدة على الدولة، إلا بموجب نص صريح وارد في قانون الميزانية العامة.
قانون أحادي
في المقابل، حذّر المجلس الأعلى للدولة في بيان رسمي من آثار مالية ونقدية وسياسية “بالغة الخطورة” للقانون، معتبرًا أنه يضفي مشروعية على دين عام ضخم تراكم منذ عام 2014 في ظل غياب ميزانيات معتمدة وحسابات ختامية.
وأكد المجلس أن إصدار القانون جاء بصورة أحادية دون أي تشاور معه، مشيرًا إلى أن اعتماد دين عام يتجاوز 303 مليارات دينار دون تحديد الجهات المسؤولة عنه، يُكرّس ثقافة الإفلات من المسؤولية.
وأضاف أن تحميل الخزانة العامة هذا الدين يعني عمليًا تحميل المواطن الليبي تبعات أخطاء مالية لم يكن طرفًا فيها، داعيًا مصرف ليبيا المركزي إلى الامتناع عن تنفيذ القانون.
لا أساس للاعتراض
في المقابل، رأى رجل الأعمال والمحلل الاقتصادي حسني بي، أن هذه الاعتراضات تفتقر إلى أساس اقتصادي حقيقي، مؤكدًا أن عدم تسوية الدين العام لا يعني تفادي الخسائر، بل تأجيل التطبيع المالي الضروري، مع زيادة مخاطر تدهور الدينار الليبي مستقبلًا.
لا آثار سلبية
وفي تصريح خاص لـ “الرائد” أوضح بي أن الآثار السلبية التي يُخشى حدوثها قد وقعت بالفعل، وأن تسوية الدين لا تضيف ضررًا جديدًا، لأن الكلفة الحقيقية للدين دُفعت مسبقًا، وتحملها المواطن الليبي عبر التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب استنزاف الاحتياطيات الأجنبية التي تراجعت من نحو 120 مليار دولار عام 2011 إلى قرابة 85 مليار دولار حاليًا.
معارضة سياسية
وأشار بي إلى أن معارضة تسوية الدين ذات طابع سياسي أكثر من كونها اقتصادية، معتبرًا أن إبقاء الدين قائمًا على الورق لا يعالج التضخم، ولا يعيد الاحتياطيات، ولا يقوي الدينار، بل إن استمرار الضبابية يزيد مخاطر تدهوره.
لا إطفاء قبل المراجعة
من جهته، شدّد المحافظ المكلف سابقًا من مجلس النواب محمد الشكري، على أنه لا يمكن إطفاء الدين العام قبل مراجعته من خبرات محاسبية ومالية وقانونية نزيهة وكفؤة، وفرزه وتصنيفه إلى مصروفات يمكن القبول بها وفق معايير متفق عليها.
وأوضح الشكري، في مقال له، أن جزءًا من الدين العام يتضمن مصاريف وهمية أو مبالغ فيها لا يمكن تبريرها، داعيًا إلى إخضاعها للتحقق والمراجعة، ثم إحالتها إلى الجهة التشريعية لاتخاذ الإجراءات المناسبة، بما في ذلك إحالتها إلى السلطات القضائية المختصة.
الرقم النهائي بعد استرداد الأموال
وبيّن الشكري أن تحديد الرقم النهائي للدين العام يجب أن يعلن بعد استرداد ما يمكن استرداده من الأموال التي صُرفت دون وجه حق، وعندها يمكن للحكومة، بالاتفاق مع المركزي، طلب تقنين الدين عبر تشريع يحدّد استراتيجية إطفائه، إما بتخصيص نسبة من مبيعات النفط السنوية، أو بإعادة تقييم الأصول الأجنبية للمصرف المركزي وفق قانون المصارف لسنة 2005.
تحذير من الضريبة
وحذّر الشكري من استخدام الرسم على مبيعات النقد الأجنبي، المقدّر بنحو 53 مليار دينار، في إطفاء الدين، موضحًا أنه في جوهره ضريبة دفعها التجار وتحملها المواطنون عبر الارتفاع الكبير في أسعار السلع المستوردة، مؤكدًا أن استخدام هذه الأموال “كمكبّات لردم مخلفات الفساد” بحجة إطفاء الدين هو “كلمة حق أُريد بها باطل”.
وبين تحذيرات من تداعيات خطيرة وتسويغ اقتصادي يعتبر الضرر واقعًا لا مفر منه، يبقى قانون سداد الدين العام نقطة اشتعال جديدة في المشهد الليبي، تعكس عمق الانقسام حول إدارة المال العام، وتطرح سؤالًا مفتوحًا: هل يشكّل القانون بداية لتنظيم المشهد المالي، أم حلقة جديدة في تحميل المواطن كلفة سنوات من الفوضى وسوء الإدارة؟
المصدر:
الرائد