في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
دير البلح – مع صباح يوم جديد من صباحات قطاع غزة ، ينحني المزارع أبو أدهم الراعي فوق تراب أرضه، يداه المشققتان تلتقطان المعول بإصرار، يغرسه في الأرض ومن حوله تمتد خيوط الري.
فالرجل الخمسيني من مدينة دير البلح لم يترك أرضه الزراعية عرضه للخراج مثل معظم أراضي القطاع الزراعية التي دمرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال عامين من حرب الإبادة على غزة، بل قرر أن يجعل منها ساحة مقاومة مختلفة؛ مقاومة بالمعول والماء، لا بالسلاح والنار.
يقول أبو أدهم، وهو يمسح عرقه بكمّه المترب، "بدأت الزراعة في حياتي من صغري، ورثتها عن أجدادي وآبائي، مارسناها منذ طفولتنا كموهبة وتعلّم، لكن بعد حرب الإبادة على غزة تغيّر كل شيء… كنا نظنها ستدوم شهرا أو شهرين، لكنها امتدت عامين، وأكلت الأخضر واليابس".
ومع اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة واشتداد الحصار الإسرائيلي، أغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر ونفدت المخزونات، لم يعد في قطاع غزة ما يكفي من البذور أو الأسمدة أو حتى الوقود لتشغيل آبار المياه.
لم يستسلم أبو أدهم لهذا الواقع، فاضطر لزراعة بذور تم تهريبها إلى القطاع بطرق مختلفة، وبأسعارٍ باهظة تفوق قيمتها الأصلية بأضعاف. "ما فيش طريق رسمي، كلو ممنوع يدخل". ويقول بصوت منخفض "كل بذرة اليوم كأنها قطعة ذهب… بدونها الأرض بتموت".
يضيف أبو أدهم للجزيرة نت "كان عندي قبل الحرب 4 آبار مياه، أما اليوم لم يتبقّ سوى بئر واحدة أستخدمه بالحد الأدنى، لأن تشغيله يحتاج إلى كهرباء أو سولار لتشغيل المولّد، وهذا طبعا غير متوفر، وأنشأنا حوضا لتجميع مياه الأمطار حتى نستفيد منها في الريّ، فكل قطرة مياه صارت بالنسبة لنا كنزا".
الزراعة في غزة لم تعد مهنة، بل مغامرة مكلفة، أسعار كل شيء تضاعفت 10 مرات، كما يقول، ورغم ذلك يزرع الملفوف والباذنجان والبندورة والقرنبيط والخيار والسبانخ، بعضها لأهل البيت، والبعض الآخر يسد به حاجة بعض المجوعين والنازحين، وحاجة الأسواق شبه الفارغة.
بين نبتة وأخرى، يرى أبو أدهم في الأرض مرآة نفسه، فكل شتلة تنبت وسط الخراب هي فعل تحدٍّ، فالمقاومة لا تقتصر على حمل السلاح، "فالزراعة مقاومة، وسلاحي هو المعول، أقاوم به إلى جانب المقاومين بسلاحهم، فنحن نحارب على الجبهة نفسها، جبهة البقاء"، يقولها بنبرة الفخر.
لكنّ الحرب لم تتركه وحده في الميدان، فقد أتت على معظم الأراضي الزراعية شرق القطاع، فصارت الرقعة القليلة التي يفلحها غرب دير البلح واحدة من المساحات النادرة الصالحة للزراعة.
ويروي للجزيرة نت "كثير من الأراضي امتلأت بالنازحين الذين دُمّرت بيوتهم، ومع ذلك لا يمكن أن نترك الأرض تموت… فهي العرض، وهي الحياة".
في أحد البيوت البلاستيكية الصغيرة التي أعاد ترميمها بجهده، يعمل مع أبنائه وبعض العمال على تثبيت شتلات الطماطم بخيوطٍ سوداء، فلا كهرباء لتشغيل الأنظمة الحديثة، ولا أسمدة كافية، لكن الحاجة تصنع من العجز شراكة في الصبر.
يسترسل أبو أدهم "أبنائي يساعدونني لأنهم فهموا أن الزراعة ليست رزقا فقط، بل كرامة، فنحن نزرع لكي لا نموت جوعا، ولكي لا ننتظر مساعدات قد لا تأتي".
في الخارج، يتواصل المشهد ذاته في كل زاوية، فالأرض عطشى، والسكان يلهثون وراء لقمة تحفظ بقاءهم، ومع ذلك يصر المزارع الغزّي على أن الأرض ما زالت تتنفس.
يكمل أبو أدهم بنظرات صمود وثبات "لو لم تكن الأرض لما وجدنا ما نأكله نحن وأطفالنا، فالزراعة اليوم فعل نجاة… نحفر في الأرض كمن يحفر في الصخور، لكي نزرع فيها الحياة".
ورغم الخسائر لم تفقد عيون أبو أدهم بريقها، فهو يحلم بيوم يعود فيه الأمان والاطمئنان، حين تُفتح المعابر التي يغلقها الاحتلال، وتُروى الأرض من جديد.
"الغلاء اليوم فاحش، والحصار خنقنا من كل الجهات، لكننا ما زلنا نزرع لأننا نؤمن بأن البذرة لا تموت، حتى لو دُفنت تحت الركام"، يقولها أبو أدهم ثم يعود ليضرب الأرض بمعوله.
في النهاية، لا يمكن فصل قصة أبي أدهم عن قصة قطاع غزة ذاته، حيث أرض تُزرع بالوجع وتصمد بالجد والصمود، فبينما تشتد المجاعة ويغيب الدعم، يظل المزارع الفلسطيني يزرع نفسه كل يوم في تربة ضيقة ليقول للعالم: ما زال في غزة من يزرع رغم الجوع، ومن يؤمن بأن الحياة تُقاوَم باليد التي تفلح الأرض.
المصدر:
الجزيرة