في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في بلدٍ أنهكته الحرب وتقطعت أوصاله بالصراع السياسي والعسكري، جاءت الطبيعة لتضيف جرحاً جديداً إلى جسد السودان. كارثة جيولوجية غير مسبوقة في إقليم دارفور تمثلت في انزلاق أرضي ابتلع قرية بكاملها، مخلفاً أكثر من ألف ضحية بين قتيل ومفقود.
المأساة، التي يفترض أن توحّد القلوب وتدفع الأطراف المتحاربة إلى هدنة إنسانية على الأقل، كشفت عكس ذلك: برود رسمي، تفاعل هش، وتوظيف سياسي يضع حياة الناس في المرتبة الثانية.
بين الفاجعة الإنسانية وردود الأفعال المحلية والدولية، يطرح سؤال مركزي نفسه: هل تكون هذه الكارثة نقطة تحول تدفع السودانيين إلى مراجعة خياراتهم العسكرية، أم أنها مجرد مأساة أخرى تذوب في ركام حربٍ لا تعرف التوقف؟.
كارثة طبيعية فوق كارثة الحرب
دارفور لم تكن يوماً بعيدة عن المآسي، فهي بؤرة الصراع السوداني منذ عقدين، لكن هذه المرة لم تكن البنادق ولا المدافع من قتلوا الأبرياء، بل الأرض نفسها.
الانزلاق الأرضي الذي وقع فجأة ابتلع قرية بأكملها، ليتحول المشهد إلى مأساة مزدوجة: حرب قائمة تحصد الأرواح، وكارثة طبيعية تضيف آلاف المنكوبين.
ماهر أبو الجوخ، الكاتب والباحث السياسي السوداني، وصف خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية هذه الكارثة بأنها "جرس إنذار"، ليس فقط بسبب حجم الخسائر البشرية، بل لما أظهرته من هشاشة الدولة السودانية وانعدام القدرة على الاستجابة السريعة، حتى في مواجهة كوارث طبيعية تفوق الإمكانيات المحلية.
غياب الاستجابة الرسمية
رغم هول الفاجعة، جاء التفاعل الرسمي ضعيفاً ومشتتاً. أبو الجوخ اعتبر أن ردود الفعل عكست بوضوح التنازع على الشرعية بين السلطات المتنافسة.
فبينما كانت "سلطة نيان" الأسرع في إعلان موقفها، بدت "سلطة بورتسودان" أقل اكتراثاً، واكتفت بتصريحات إعلامية محدودة دون خطوات ملموسة لإغاثة المنكوبين أو إعلان المنطقة منكوبة رسمياً.
في الظروف الطبيعية، كما يقول أبو الجوخ، كانت أي حكومة في العالم ستسارع إلى إعلان الطوارئ، طلب المساعدات الدولية، وإرسال فرق إنقاذ عاجلة. لكن ما حدث في دارفور كشف العكس: حسابات سياسية تطغى على الواجب الإنساني، وصراع على الشرعية يتقدم على سلامة المواطنين.
الشرعية المفقودة.. السياسة فوق الإنسان
تساؤل جوهري يطرحه أبو الجوخ: "هل الشرعية التي تبحث عنها الأطراف السودانية مرتبطة بخدمة المواطن وحمايته؟ أم أنها مجرد إطار سياسي لإثبات القوة وفرض الأمر الواقع؟"
الإجابة، كما يظهر من ضعف التفاعل، تميل نحو الخيار الثاني.
الأطراف المتحاربة تنظر إلى الشرعية كمعركة سياسية وعسكرية، بينما يبقى المواطن خارج المعادلة. وهذا ما يفسر، وفق أبو الجوخ، لماذا لم يهرع أي طرف إلى تبني كارثة دارفور كقضية إنسانية مشتركة تفرض التعاون والتضامن. بل على العكس، جرى التعاطي معها ببرود، وكأنها حدث هامشي.
المجتمع الدولي في مأزق التسييس
الأزمة لم تقتصر على الداخل السوداني. المساعدات الدولية والإقليمية، التي عادة ما تتدفق في مثل هذه الكوارث، وجدت نفسها هي الأخرى عالقة في حسابات السياسة. أبو الجوخ أوضح أن القوى الدولية والإقليمية تخشى أن يُفسَّر تدخلها على أنه دعم لطرف ضد آخر، وهو ما يعيق وصول المساعدات الإنسانية للمنكوبين.
لو أن الأطراف السودانية تعاملت مع الكارثة بصوت واحد، لكان من الممكن إطلاق نداء إقليمي ودولي واسع. لكن الانقسام والبرود دفع المجتمع الدولي إلى التردد، تاركاً الضحايا يواجهون مصيرهم وسط أنقاض قريتهم المدفونة.
دارفور.. بين كوارث الحرب وكوارث الطبيعة
الكارثة كشفت هشاشة مضاعفة: دولة غارقة في صراع داخلي، وطبيعة تهدد بمزيد من المفاجآت. أبو الجوخ حذّر من أن المتغيرات الجيولوجية في المنطقة قد تعني أن الانزلاق الأرضي ليس حدثا معزولا، بل ربما يكون مقدمة لسلسلة كوارث أخرى إذا لم تُجرَ دراسات علمية عاجلة لمعرفة طبيعة الأرض.
دارفور، إذن، ليست فقط ساحة حرب، بل أيضا منطقة مهددة ب كوارث طبيعية متكررة، وهو ما يضع تحديا إضافيا أمام أي مشروع لإعادة البناء أو الاستقرار في السودان.
سيناريوهات المستقبل
من قراءة أبو الجوخ، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السودان بعد كارثة دارفور:
أولا: استمرار اللامبالاة: وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً في المدى القريب، حيث تواصل الأطراف المتحاربة التركيز على الصراع العسكري والسياسي، متجاهلةً حجم المأساة الإنسانية.
ثانيا: هدنة إنسانية مؤقتة: قد تدفع فداحة الكارثة بعض الأطراف إلى وقف إطلاق النار جزئياً أو السماح بدخول المساعدات، لكن دون أن يترجم ذلك إلى التزام سياسي طويل الأمد.
ثالثا: ضغط دولي متزايد: مع تفاقم الأزمة الإنسانية، قد تجد القوى الإقليمية والدولية نفسها مضطرة إلى التدخل، ليس فقط لتقديم المساعدات، بل أيضاً لفرض ضغوط سياسية على الأطراف السودانية للجلوس إلى طاولة التفاوض.
غير أن أبو الجوخ بدا متشائماً: "عدم التفاعل مع هذه الكارثة يعطي مؤشراً أساسياً بأن إرادة السلام وإيقاف الحرب غير موجودة لدى بعض الأطراف".
كارثة دارفور لم تكن مجرد انزلاق أرضي ابتلع قرية وأودى بحياة أكثر من ألف شخص. كانت مرآة عاكسة لحالة السودان اليوم: دولة منقسمة، أطراف متحاربة تضع الشرعية السياسية فوق حياة الناس، ومجتمع دولي عاجز عن التدخل خوفاً من تهمة الانحياز.
إذا كانت الكوارث الطبيعية في دول مستقرة عادة ما تدفع الحكومات والشعوب إلى التكاتف، فإنها في السودان تحولت إلى دليل إضافي على الانقسام وغياب الدولة.
وبينما يدفن الناجون موتاهم تحت الركام، يبقى السؤال معلقاً: هل يستفيق السودانيون من صراعاتهم قبل أن تبتلع الأرض المزيد من القرى والأرواح؟.