مع الذكرى الرابعة لتحرر أفغانستان الحقيقي من الاحتلال الأجنبي، وجدنا أنفسنا- بعد مرور عام ونصف على آخر زيارة- في أرضها من جديد، بدافع مناسبة خاصة.
وبينما كانت سياراتنا تشق طريقها وسط الفوضى المرورية في شوارع كابل، كان أول ما لفت انتباهنا شبه انعدام إشارات المرور. المركبات تتقاطع في مسارات متقابلة بأقصى سرعة، ثم تنحرف فجأة في اللحظة الأخيرة لتتفادى التصادم، وتواصل سيرها وكأن شيئا لم يكن.
مشهد يصعب على من اعتاد نظام المرور في تركيا أو أوروبا أن يتقبله بسهولة، ولكنه هنا "نظام في قلب الفوضى" يعمل بشكل غريب وفعال.
لكن هذه الملاحظة العارضة قادتنا لاكتشاف آخر؛ إذ علمنا أن "الإمارة الإسلامية"- التي تحكم البلاد للمرة الثانية منذ أربع سنوات- قد وضعت بالفعل قوانين لتنظيم المرور، غير أن هذه القوانين بلا غرامات مالية، لأن العقوبات المالية غير جائزة في الفقه الحنفي، والإمارة ملتزمة بهذا الحكم، فلا تفتح له بابا. أمر يبدو غير قابل للفهم بعقل مشبع بمقاييس العصر الحديث، حيث تُقرأ الأمور دوما بمنطق المنفعة أو المصلحة أو العائد المالي.
لمن اعتاد البحث عن البراغماتية أو حتى الفساد في كل قرار، سيكون من المستحيل تقريبا أن يفهم كيف يمكن التضحية بمصدر دخل كبير لمجرد أنه يخالف قاعدة فقهية.
وهذا، في الحقيقة، مثال نموذجي على ما يمكن تسميته "سياسة المستحيل". فعندما كتب وائل حلاق كتابه الدولة المستحيلة: لماذا لا يمكن قيام دولة إسلامية في العصر الحديث، جادل بأن دولة تقوم على أسس أخلاقية محضة أمر غير ممكن، لكن طالبان- في ظاهر ممارساتها- تبدو وكأنها تسعى لإثبات العكس.
فالدولة الحديثة، بطبيعتها كما يرى حلاق، لا يمكن أن تكون أخلاقية، ولا يمكن تمثيل الإسلام الحقيقي داخل بنيتها، إلا إذا تجاهلت مقاييس الحداثة وموازين القوى والنظام العالمي وأولوياته… وهذا بالضبط ما تفعله طالبان، فهي لا تبالي بشيء من ذلك.
خلال زيارتنا، لمسنا في شخصيات الوزراء الذين التقيناهم، وفي أسلوبهم وفلسفتهم، ملامح مشتركة: تواضع بالغ أمام المسلمين، وثقة صارمة أمام الأعداء، وحرص على التأكيد بأن ما يهمهم هو معايير الشريعة وحدها، فهي خط أحمر لا يُتجاوز. ووفقا لنظرتهم، السيادة الحقيقية لله وحده، وشريعته فوق الجميع، ولا يملك أحد- حتى طالبان نفسها- أن يستثني نفسه من أحكامها.
حتى أسبوعين مضيا، لم تكن أي دولة قد اعترفت رسميا بحكم طالبان، حتى جاء اعتراف روسيا مؤخرا. ورغم ذلك، للإمارة علاقات دبلوماسية وتجارية فعلية مع أكثر من مئة دولة.
ويأمل مسؤولوها أن يتبع الاعترافَ الروسي اعترافُ دول أخرى، لكن هذه التطلعات لا تجعلهم مستعدين للمساومة على مواقفهم أو معتقداتهم أو التزاماتهم بالشريعة والأخلاق الإسلامية. ومن أكثر النقاط التي وُجهت لهم فيها الانتقادات: قضية عدم السماح للفتيات بالتعليم في المدارس الثانوية والجامعات.
في إحدى الأمسيات، التقينا وزير التعليم، المولوي حبيب الله آغا، على مائدة عشاء في سطح مدرسة دينية متواضعة، يمتلكها ابن أخيه- وهو أحد قادة طالبان- وتضم مئات الطلاب. جاء الوزير بلا أي مظاهر رسمية أو حراسة لافتة، وجلس بين الحاضرين ببساطة، ثم بدأ، دون أن يسأله أحد، بشرح واقع التعليم الحالي: ملايين الطلبة- ذكورا وإناثا- يتلقون التعليم الأساسي حتى الصف السادس، ومن بعده تواصل الفتيات دراستهن في العلوم الشرعية حتى الصف الثاني عشر، ويشمل ذلك ملايين الطالبات. ثم أضاف أن هناك خططا جاهزة تقريبا لإطلاق برامج جديدة تتيح لهن التعليم الجامعي، سيُعلن عنها قريبا.
أوضح الوزير أن المناهج السابقة- خلال حقبة الاحتلال- خرّجت أجيالا تفكر بعقلية "مستعمَرة"، أما اليوم فهم على وشك إتمام إعداد مناهج جديدة تراعي "أفغانستان حرة"، مشيرا إلى أن بإمكانه تلقي أسئلة الحاضرين.
في مداخلتي، عبّرت أولا عن تقديري لنضالهم الممتد لخمسين عاما ضد قوى الاحتلال الكبرى، والذي انتهى بإجبارها على الرحيل، وهو ما يستحق كل احترام. ثم عرضت رأيا قد يفيد في مسار التعليم: لا ينبغي حصر الطالب- ذكرا أو أنثى- بين خيارين متباينين هما "التعليم الديني" و"التعليم الحديث"، بل يمكن الجمع بينهما.
وضربت مثالا بمدارس "الإمام والخطيب" في تركيا، التي- رغم عيوبها- نجحت في مزج العلوم الحديثة بالعلوم الإسلامية، مما منحها طابعا إسلاميا عاما. وأشرت إلى أن حصر الفتيات في التعليم الشرعي بعد الصف السادس قد يتركهن غير مهيئات للالتحاق بالجامعة إذا فُتح بابها لهن مستقبلا، وهو ما قد يسبب لهن حرمانا أو ظلما.
أصغى الوزير باهتمام كبير، ورد بعبارات لافتة: "نحن اليوم تحت حكم العلماء الذين جعلوا العلم محور حياتهم، فكيف نريد الجهل للنساء أو لغيرهن؟ وكيف يمكن أن نمنع تعليمهن؟ كل ما نقوم به الآن هو إعدادٌ وتجهيز.
نحن نعمل على نظام يمكّن البنات من مواصلة تعليمهن، نحن نريد أن نُعلِّمهم ليكونوا قادرين دائماً على خوض غمار الحياة والانتصار في الحروب، ونستمع باهتمام لنصائح إخواننا المسلمين حول العالم، ونستفيد منها. نموذج الإمام والخطيب الذي ذكرتموه مثير للاهتمام، وقد سمعنا به من قبل، فإذا استطعتم تزويدنا بمناهجه فسندرسه ونستفيد منه".
كان جوابه باعثا على السرور ومثيرا للتأمل، إذ يحمل نبرة تتناقض مع الصورة النمطية التي رُسمت لطالبان لسنوات بشأن تعليم البنات. وربما، بهذا التوجه، نكون أمام بداية حل لإحدى أبرز الذرائع التي استُخدمت لعزل أفغانستان عن العالم.
ومع ذلك، يجب التنبه إلى أن الإمارة الإسلامية لا تعالج هذا الملف تلبية لمطالب الغرب، بل وفق رؤيتها والتزامها بمقتضيات الشريعة الإسلامية وحدها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.