بين انغلاق المسار التفاوضي في غزة وتبدد الآمال في تسوية قريبة، تدخل الأزمة منعطفًا جديدًا بعد أن منح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضوءًا أخضر لإسرائيل لـ"القضاء على حماس"، معتبرًا أن الحركة لم تعد شريكًا في أي حل تفاوضي، بل "عقبة ينبغي تجاوزها".
وفي مقابل هذا التصعيد، تبدو تل أبيب بصدد إعادة صياغة أهداف الحرب، بينما تراوح جهود الوساطة مكانها وسط صمت إقليمي ثقيل.
ترامب يرفع السقف
للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة، يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعبارات قاطعة، أن حركة حماس "لا تريد اتفاقًا"، بل "تسعى لمزيد من العنف"، مطالبًا بـ"القضاء عليها" باعتبارها – وفق وصفه – حجر العثرة الأساسي أمام أي وقف لإطلاق النار.
هذا التصريح اللافت، الذي تزامن مع تعثر جولة مفاوضات غير مباشرة في القاهرة، أسقط عمليًا صفة الوساطة عن الدور الأميركي، وكرّس انحيازًا معلنًا للموقف الإسرائيلي، ما أدى إلى انكشاف المسار التفاوضي وانهيار رهانات التهدئة، ولو مؤقتًا.
تل أبيب تعيد رسم المعادلة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يخف امتنانه من تصريحات ترامب، قال إن حكومته تدرس "خيارات متعددة" بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بهدف استعادة المحتجزين لدى حماس، وإنهاء سلطتها في غزة بشكل نهائي.
وقال نتنياهو، في بيان مقتضب، إن "الفرصة لا تزال قائمة لإعادة صياغة واقع أمني جديد في القطاع"، مشيرًا إلى أن "المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف كان واضحًا حين أكد أن حماس هي العقبة أمام التوصل إلى اتفاق شامل".
وقد فسّرت أوساط إسرائيلية هذه التصريحات على أنها تمهيد لمرحلة عسكرية جديدة أكثر كثافة، أو حتى لتوسيع رقعة العمليات الميدانية، وسط دعم أميركي معلن وغير مشروط.
حماس: الولايات المتحدة باتت شريكًا في الحرب
في المقابل، اتهمت حركة حماس الإدارة الأميركية، على لسان عضو مكتبها السياسي باسم نعيم، بالتورط المباشر في تعقيد المسار التفاوضي، معتبرة أن تصريحات المبعوث ويتكوف "خارجة عن السياق المهني والدبلوماسي"، و"تخدم بالكامل الأجندة الإسرائيلية".
نعيم قال إن حماس تعاملت "بمرونة مسؤولة" في جولات التفاوض، وأن "تعثر المحادثات لا يعكس تعنت الحركة، بل انقلاب الأطراف الراعية على محددات التهدئة"، في إشارة إلى تغير الموقف الأميركي بعد تصريحات ترامب الأخيرة.
القاهرة والدوحة: تعليق مؤقت أم انسداد دائم؟
وسط تبادل الاتهامات، أصدر الوسيطان المصري والقطري بيانًا مشتركًا وصفا فيه تعليق المفاوضات بأنه "أمر طبيعي في سياق مفاوضات معقدة"، مؤكدَين أن المشاورات لا تزال جارية لإنهاء نقاط الخلاف العالقة بين إسرائيل وحماس، دون تحديد جدول زمني.
لكن تقارير متقاطعة نقلتها وسائل إعلام مصرية وقطرية أشارت إلى أن أجواء التفاوض باتت مشحونة، وأن الوسطاء يواجهون صعوبة متزايدة في ضبط إيقاع التفاوض، خاصة بعد دخول واشنطن في مربع التصعيد.
ترامب لا ينوي التدخل عسكريًا.. لكنه سيحاصر حماس
في حديث خاص لبرنامج "التاسعة" على قناة سكاي نيوز عربية، أكد غبريال صوما، عضو الحزب الجمهوري والمستشار السابق في فريق ترامب، أن الرئيس الأميركي يملك "عدة أوراق ضغط" على حماس، تشمل:
صوما شدد على أن "ترامب لا يرغب في إرسال جنود أميركيين إلى غزة"، لكنه في المقابل "مستعد لتقديم كل الدعم اللوجستي والاستخباراتي لإسرائيل، بما في ذلك تزويدها بأنظمة صاروخية متقدمة إذا تطلب الأمر".
ورأى أن ترامب "يحاول تجنب الانخراط العسكري في أزمات الشرق الأوسط"، لكنه "لن يتوانى عن اتخاذ خطوات حازمة لحماية المصالح الأميركية ومواطنيها المختطفين"، حسب تعبيره.
مصير غزة: التهجير يعود إلى الواجهة
الأخطر في تصريحات غبريال صوما ما تعلق بمستقبل سكان غزة. إذ أشار إلى أن ترامب "سبق أن طرح خيار تهجير سكان القطاع إلى دول مجاورة"، مثل مصر أو الأردن، غير أن هذا الخيار واجه "رفضًا عربيًا واسعًا"، مما أدى إلى سحبه مؤقتًا من التداول.
لكن صوما لفت إلى أن ترامب لا يزال يعتبر "الكتلة السكانية في غزة معضلة حقيقية"، وأنه يسعى إلى إيجاد حلول قد تشمل "إعادة تموضع السكان في مناطق آمنة خارج القطاع"، دون أن يعني ذلك فرض التهجير القسري المباشر.
وأوضح أن "أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في غزة دون بنية تحتية، ولا أفق للحياة الكريمة"، مشيرًا إلى أن إسرائيل "ترغب في إبعادهم، بينما لم تعلن أي دولة عربية استعدادها لاستقبالهم ولو مؤقتًا".
قطاع تحت الأنقاض وشعب على حافة المجهول
بالتوازي مع الجمود السياسي والتصعيد العسكري، يعيش القطاع أوضاعًا إنسانية كارثية. فبحسب صوما، غزة "تفتقر إلى الماء والكهرباء والمساكن"، مشيرًا إلى أن "الدمار الكامل للقطاع يطرح أسئلة مؤلمة حول ما إذا كان قابلاً للعيش أصلًا".
في هذا السياق، يرى مراقبون أن التصعيد الأميركي-الإسرائيلي قد يكون مقدمة لتحول جذري في التعاطي مع القطاع، يشمل إعادة هندسة الواقع السكاني، أو فرض سلطة بديلة تُصاغ بتوافق إقليمي ودولي، وهو سيناريو يبدو حتى الآن غير ناضج سياسيًا أو إنسانيًا.
بين نارين: حماس تصارع للبقاء
في ضوء هذا التعقيد، يبدو أن غزة مقبلة على مرحلة بالغة الخطورة. حماس، التي تجد نفسها في مواجهة ثلاثية (عسكرية مع إسرائيل، وسياسية مع واشنطن، وتفاوضية مع الوسطاء)، تخوض معركتها الأشرس للبقاء. أما إسرائيل، فترى في اللحظة الدولية فرصة لإعادة تشكيل معادلة الردع والواقع الأمني.
ترامب، من جانبه، فتح الأبواب المغلقة أمام تل أبيب، ورفع عنها حرج الضغط الدولي، لكنه لم يقدّم بعد رؤية واضحة لما بعد حماس. ومن دون إجابة على هذا السؤال، تبقى كل السيناريوهات مفتوحة، والأسئلة معلقة: من يحكم غزة بعد حماس؟ وأين يذهب مليونا إنسان تُغلق في وجوههم كل الأبواب؟