غزة- على سرير متهالك في مستشفى شهداء الأقصى الحكومي الصغير والوحيد في وسط قطاع غزة يلقي الجريح العشريني محمود سعيد بجسده المنهك، لا يقوى على الحركة، إثر إصابته بنيران الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز لتوزيع المساعدات الأميركية تابع لمؤسسة غزة الإنسانية في مدينة رفح جنوب القطاع.
ويشير إلى ساقيه المقيدتين بروابط طبية حديدية لثبيت الكسور، ويقول سعيد (26 عاما) للجزيرة نت، "كنت أسير يوميا مسافات طويلة، والآن لا أستطيع حتى الذهاب للمرحاض لقضاء حاجتي من دون مساعدة 4 أشخاص".
بدافع من الجوع الذي يفتك بأسرته (9 أفراد) لم يجد سعيد من خيار سوى المخاطرة بنفسه، والاندفاع بين حشود المجوعين نحو مركز المساعدات غرب مدينة رفح، وبعد انتظار طويل، وبدلا من حصوله على ما يعود به لأسرته لسد جوعها، تلقى 8 أعيرة نارية في ساقيه.
ومنذ افتتاح هذه المراكز المدعومة أميركيا وإسرائيليا في 27 مايو/أيار الماضي، دأبت هيئات محلية ودولية على وصفها بـ "مصايد موت"، حيث تشير بيانات فلسطينية رسمية إلى أن حصيلة ضحاياها في أوساط المجوعين تجاوزت 900 شهيد، ونحو 6 آلاف جريح، و42 مفقودا.
توزعت الأعيرة النارية الثمانية مناصفة على ساقي سعيد، وسببت له كسورا هشمت عظامه، وآلاما شديدة حرمته النوم.
يقول سعيد إن الأطباء يبذلون كل جهدهم، غير أنهم يواجهون معوقات عدم توفر العلاج والأدوية، "وحتى الطعام غير متوافر لهم ولنا كجرحى ومرضى، إننا نموت في كل لحظة من الألم والجوع".
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، كان سعيد سائق أجرة، وعلى إثرها فقد عمله، واضطر للنزوح مع أسرته أكثر من 20 مرة استنزفت مدخراتهم.
ولا يعلم هذا الشاب المصير الذي ينتظره في ظل ما تعانيه المستشفيات والمرافق الصحية في غزة من حالة انهيار وعجز كبير في الكوادر الطبية المتخصصة، والأجهزة والمعدات والأدوية.
ويحتاج سعيد إلى كرسي متحرك أو عكاز يساعده على الحركة وقضاء حاجاته اليومية الضرورية، وهي أدوات مساعدة، تشكو أغلبية جرحى الحرب، خاصة ذوي الإعاقة، من عدم توافرها.
وفي قسم مجاور داخل المستشفى ترقد الطفلة الجريح جنى النصيرات (13 عاما)، التي نجت بأعجوبة من غارة جوية إسرائيلية على منزل جيران في مدينة دير البلح وسط القطاع.
كانت جنى ووالدتها وشقيقها ضيوفاً لدى الجيران لحظة سقوط صاروخ مباشرة عليهم، وتسبب في إصابة ثلاثتهم بجروح متفاوتة، بينما استشهد على الفور 3 من أصحاب المنزل المستهدف.
تقول هذه الطفلة للجزيرة نت، إن تشخيص حالتها أظهر إصابتها بكسور في أطرافها الأربعة، وحروق في الوجه وأنحاء مختلفة من جسدها.
وتعاني جنى من آلام جسدية ونفسية جراء عدم توافر "مراهم" لعلاج هذه الحروق وتخفيف آثارها وآلامها، فضلا عن عدم قدرتها على الحركة من دون مساعدة الآخرين.
يقول منسق مكتب غزة في مجموعة عمل الإعاقة التي تضم 50 هيئة وطنية ودولية الدكتور إياد الكرنز للجزيرة نت، إن الحرب تسببت في زيادة بنحو 55% على فئة الأشخاص من ذوي الإعاقة، أغلبها إعاقة حركية، نتيجة حالات البتر اليومية في أوساط الجرحى.
وقبل اندلاع الحرب كانت أعداد ذوي الإعاقة تقدر بنحو 58 ألف حالة، 47% منها إعاقة حركية، بينما أفرزت الحرب نحو 32 ألف إعاقة، ويشير الكرنز إلى تقرير لمنظمة الصحة العالمية يتحدث عن أن 25% من الجرحى تلازمهم إعاقات مختلفة.
وأظهر تقرير حديث مشترك بين مجموعة عمل الإعاقة ومنظمة إنقاذ الطفل، أن 10 أطفال على الأقل يصابون يوميا في غزة بحالات بتر لأحد الساقين أو كليهما.
ولذلك يقدر الكرنز، أن هناك 90 ألف إعاقة في غزة، يضاف إليهم 107 آلاف شخص من المسنين فوق عمر الـ 60 عاما يعانون من أمراض مزمنة، فقد 3800 منهم حياتهم، جراء عدم توفر الأدوية والعلاج، بما في ذلك أدوات المساعدة اللازمة لهم.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان من العام الماضي تمنع دولة الاحتلال الأدوات المساعدة كالعكاكيز والكراسي المتحركة، بدعوى أنها "مزدوجة الاستخدام"، أي أنها تخشى من تسربها للاستخدام في صناعات عسكرية.
ويعتقد الكرنز، الذي يرأس أيضا "جمعية نجوم الأمل لتمكين النساء ذوات الإعاقة"، أن الاحتلال ينتهج سياسة من شأنها زيادة معاناة الفئات الهشة من ذوي الإعاقة والمسنين والمرضى المزمنين، وتحرمهم من العلاج والأدوات المساعدة ومن حق الوصول الآمن للغذاء، إمعانا منها في "جرائم الإبادة".
ويندرج في سياق هذه السياسة استهداف مراكز التأهيل، بما فيها تلك التي كانت داخل المستشفيات الحكومية والأهلية والتابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أونروا )، مقدرا أن أكثر من 80% من هذه المراكز دمرت كليا أو خرجت عن الخدمة منذ اندلاع الحرب، وأبرزها "مستشفى سمو الشيخ حمد للتأهيل والأطراف الصناعية" في شمال القطاع، بحسب الكرنز.
ويفتقد ذوو الإعاقة حاليا للعلاج الطبيعي والوظيفي، ويقول الكرنز إن "عمليات التأهيل تجرى لهم يدويا"، وبرأيه فإن هذه الفئة ليست مجرد أرقام، فمنهم من حرمته الإعاقة من طفولته وعمله وحلمه، وقدرته على إعالة نفسه وأسرته، وتزداد معاناتهم مع حياة النزوح في خيام ومراكز إيواء غير موائمة لاحتياجاتهم.
ويؤكد أنه كان بالإمكان إنقاذ جرحى من الإعاقة لو توفر العلاج والأجهزة الطبية، والكوادر الطبية المتخصصة التي تعمد الاحتلال الفتك بها قتلا واعتقالا، علاوة على منعه إدخال الوفود الطبية الأجنبية لإسناد الكوادر المحلية المنهكة.
بأرقام صادمة يشخص مدير المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة بغزة الدكتور مروان الهمص الواقع الصحي المنهار، ويقول للجزيرة نت، إن مخازن الوزارة تحتوي على أرصدة صفرية بالنسبة لعدد كبير من الأصناف الدوائية والمستهلكات.
"وبسبب ذلك فقدنا 99% من خدمة جراحة القلب والقسطرة القلبية، وفقدنا 85% من خدمة جراحة العظام، و73% من خدمة الجراحة العامة، و54% من خدمة مرضى السرطانات، و45% من خدمة غسيل الكلى، وفقدنا 54% من الأدوية اللازمة في خدمات الرعاية الأولية والخاصة بأمراض القلب والضغط والسكري والأطفال"، يوضح الهمص.
وهذا الواقع المعقد دفع الطواقم الطبية إلى العمل بما يسميه الهمص "نظام المفاضلة"، بحيث يقرر الأطباء تقديم الخدمة للحالة التي يرون أنهم يمكن التعامل معها طبيا وإنقاذها، والحالة الميؤوس منها تترك لقدرها ومواجهة مصيرها.
وفي ظل نسبة إشغال كبيرة في المستشفيات تتراوح ما بين 130 إلى 150%، نتيجة الضغط الهائل في أعداد الجرحى، يقول مدير المستشفيات الميدانية، إن الحالات المتوسطة لا تأخذ وقتها في العلاج، ويتم تسريحها بعد تقديم العلاج المتوافر لها في أقسام الاستقبال، بينما يقتصر المبيت على الحالات الخطِرة.
ويتفق الهمص مع الكرنز على أن أعدادا كبيرة من الجرحى والمرضى فقدوا حياتهم، أو أطرافهم جراء الاضطرار لعمليات البتر، في ظل بنية صحية مدمرة من الاستهداف الإسرائيلي الممنهج، وكان بالإمكان إنقاذهم لو توافرت الإمكانات البشرية والمادية لإجراء العمليات الجراحية اللازمة.