تونس- لا تزال الأحكام القضائية الصادرة في ما يعرف بقضية تسفير الشباب التونسي للقتال في سوريا، والتي قضت بسجن رئيس الحكومة الأسبق علي العريض 34 عاما، تثير جدلا واسعا في الأوساط السياسية بتونس.
فبينما يرى خصوم حركة النهضة ، أن الأحكام استندت إلى تحقيقات تثبت تورط العريض ومسؤولين سابقين، تعتبر الحركة أن المحاكمة ذات طابع سياسي لتصفية الحسابات معها، مؤكدة براءتها من التهم.
ووسط هذا الانقسام، يرى مراقبون، أن المحاكمة لم تكشف الحقيقة في الملف إذ غابت التفاصيل الجوهرية المتعلقة بالشبكات أو الأشخاص المتورطين أو عدد الذين جُندوا أو الذين سافروا إلى سوريا.
ويرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي، أن ملف التسفير يعدّ من أكثر القضايا حساسية وتعقيدا في المشهد السياسي التونسي، لكنه في المقابل يفتقر إلى المعالجة القضائية والإعلامية الشفافة.
ويؤكد للجزيرة نت، أن ما يثير الاستغراب هو أن التهم وُجهت لقيادات سياسية، وبالأساس من حركة النهضة، من دون تقديم وقائع أو قرائن مقنعة يمكن للرأي العام أو حتى القضاء أن يستند إليها لتقييم موضوعي.
ويرى أن ما يزيد من التباسات هذه القضية، هو غياب المعطيات التي تتيح للرأي العام تتبّع سير المحاكمات، قائلا إن "هذا الملف لم يكشف بالكامل، ويحوم حوله الغموض ولم تتجلّ الحقيقة بالقدر الكافي".
وكانت دائرة مكافحة الإرهاب بالمحكمة الابتدائية أصدرت، الجمعة الماضية، حكما بالسجن 34 عاما على رئيس الحكومة الأسبق علي العريض، إضافة إلى أحكام تجاوزت 30 عاما على متهمين آخرين في القضية.
العريض حكم عليه بالإعدام وسُجن أكثر من 14 سنة، قضى معظمها في الانفرادي في فترة حكم بن علي ، وبعد الثورة التونسية في 2011 تولى مناصب مهمة في الدولة فعيّن وزيرا للداخلية ورئيسا للحكومة التونسية.
ويتهمه خصوم النهضة بالمسؤولية عن اغتيال القياديين اليساريين شكري بلعيد و محمد براهمي ، والتسامح مع "السلفية الجهادية"، لكن حزبه يؤكد أنه كان رجل دولة وأنه اتخذ إجراءات كثيرة لمحاربة التطرف.
ورغم ربط بعض الأطراف السياسية ظاهرة تسفير الشباب للقتال في سوريا بفترة حكم النهضة، يرى محللون أنها أعمق زمنا وأكثر تعقيدا، وتعود بداياتها إلى عام 2003 إبّان الحرب على العراق، أي قبل الثورة.
ففي تدوينة على فيسبوك، نشر المحلل السياسي طارق الكحلاوي مقالا تحليليا عن ظاهرة التسفير، مؤكدا أن الملف معقّد ويعود إلى تراكمات طويلة وليس فقط حكرا على مرحلة حكم طرف سياسي بعينه.
وقال الكحلاوي، إن التسفير ظاهرة قديمة انطلقت في 2003 إبان غزو العراق، وتواصلت في عهد حكومة الباجي قايد السبسي في 2011 (أي بعد الثورة)، واستفحلت في فترة حكم التروكيا (حركة النهضة وحزب المؤتمر والتكتل) بدءا من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، واستمرت بعدها.
ورغم حساسية الملف وتعقيداته، فإن قيادات حركة النهضة ترى أن هذا الملف تم تلفيقه للحركة في إطار التجاذبات السياسية والأيديولوجية، بعيدا عن كشف الحقيقة ومن دون توفير محاكمة علنية وعادلة للمتهمين.
في السياق، يقول القيادي في حركة النهضة عماد الخميري -للجزيرة نت- إن تعاطي السلطة مع ملف التسفير قام على منطق "الإدانة المسبقة وتكميم الأفواه من دون تمكين المتهمين من حقهم في الدفاع والتوضيح".
وأكد أن الحركة طالبت بمحاكمات علنية أمام الرأي العام لكشف الحقيقة خاصة أنها ترى نفسها الطرف الأكثر تضررا من هذه القضية التي تمت فيها شيطتنها سياسيا وإعلاميا ثم حوكمت فيها سياسيا.
وأضاف أن ملف التسفير ظاهرة تعود إلى سنة 2003 إبان الحرب على العراق وتواصلت بعد مغادرة النهضة الحكم سنة 2013، مؤكدا أن القضاء لم يبحث عن كشف الملف وتفكيكه، وإنما سعى إلى إدانة النهضة.
وتابع الخميري، إن وزارة الداخلية لم تتجاوب مع طلبات هيئة الدفاع المتعلقة بالكشف عن المعطيات الدقيقة عن فترات التسفير وأعداد الذين سافروا، معتبرا ذلك تعتيما مقصودا يعيق الوصول إلى الحقيقة وراء هذا الملف.
ونقل عن هيئة الدفاع عن العريض، أن من بين 800 متهم في القضية، لم يسافر سوى 14 شابا في الفترة التي تولى فيها العريض وزارة الداخلية، وهو ما يعتبره دليلا على براءة النهضة من التهم الموجهة إليها.
ويرى باحثون أن فهم ظاهرة التسفير لا يكتمل من دون التطرق إلى دور تنظيم "أنصار الشريعة" الذي استغل ضعف الدولة بعد الثورة ونجح في التغلغل داخل الأحياء الشعبية والمساجد غير الخاضعة للرقابة.
وبينما يتهم خصوم النهضة الحركة بغض الطرف عن هذا التنظيم المتشدد، تؤكد النهضة وهيئة الدفاع عن علي العريض نائب رئيسها، أنه هو من صنّفه تنظيما إرهابيا في تونس وشرع في ملاحقته أمنيا.
من جانبه، يقول المحامي وأستاذ القانون عبد الوهاب معطر، إن جميع المتهمين في قضية التسفير حوكموا في غياب شروط المحاكمة العادلة ومن دون حجج وأدلة مقنعة ودون محاولة لكشف الحقيقة.
ويؤكد معطر للجزيرة نت، أن الأحكام القضائية في ملف التسفير تأتي ضمن سياق أوسع من المحاكمات السياسية التي طالت معارضي الرئيس قيس سعيد وآخرها قضية التآمر التي شملت عشرات من المعارضين.
ويقول إن "الموضوع لا يتعلق بملفات قضائية أو ملفات عدلية، الموضوع هو ببساطة احتجاز تعسفي لخصوم سعيد"، مؤكدا أن المحكمة لم تقدم أي أدلة مادية تدعم الاتهامات الموجهة إلى المعارضين السياسيين.
وتتهم قوى المعارضة الرئيس سعيد باستخدام القضاء أداة لتصفية خصومه السياسيين، عبر الدفع نحو محاكمات توصف بالمسيّسة لاستهداف رموز المعارضة والفاعلين السابقين في المشهد السياسي.
وتشير هذه القوى إلى تكرار السيناريوهات نفسها في عدد من القضايا منها: "ملف التسفير" و"قضية التآمر على أمن الدولة" وقضية "أنستالينغو" حيث وجهت تهم ثقيلة للعديد من المتهمين أغلبهم من حركة النهضة.
في المقابل، يقول أنصار سعيد، إن القوى السياسية التي حكمت البلاد خلال العشرية الماضية قد تورطت في العديد من ملفات الفساد والإرهاب، معتبرين أن المحاكمات الجارية ضرورية لمحاسبتهم.