في كتابه "مطبخ الرواية.. الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير" يتنقل بنا الأكاديمي والكاتب المغربي الدكتور سعيد العوادي بين فصول وصفحات عدد من الروايات العربية والأجنبية، متوقفا عند عوالم الطعام في تلك الروايات، مبينا كيف أن فن الرواية يصنع عالما متخيلا يتفاعل مع عالم الواقع، وراصدا حضور الطعام في الأدب الروائي.
وفي مقدمة كتابه يقول العوادي إن الروايات التي يستعرضها الكتاب تضمنت مطابخ متنوعة تزخر بصنوف من الموائد تهيج الحواس، وتكاد تتراءى للقارئ صور جلسات تناول الطعام وارتشاف الكؤوس وألوان الملذات، ويسمع صرير احتكاك الشوكات بالسكاكين وقرقرة الأشربة ونشيش الطهي، ويشم الروائح وتوابل المطبخ وأريج الفواكه، ويتذوق لذيذ المشهيات، فتخلق في نفسه حالات سيكولوجية متباينة، كأن توقظ ذكرى مطمورة أو تومض فكرة منطفئة.
وبحسب مقدمة الكتاب، فلا غرابة في ذلك ما دمنا نوسع الدائرة الوظيفية للطعام، فلا تنحصر في الوظائف البيولوجية، بل تميل إلى الامتداد في الوظائف الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والثقافية، حيث يجسر الطعام علاقات راسخة مع أسئلة الوجود والهوية والطبقية والجندر، وغير ذلك.
ونتعرف من كتاب "مطبخ الرواية.. الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير" على أن لكل طعام أو شراب ذاكرته السردية الخاصة التي تحمل معها تنوعا من العلاقات الإنسانية المتجذرة في الزمان والمكان، وكأن كل مفردة من مفردات الطعام والشراب هي عنوان الرواية الكاملة الأركان، وإذا ما اخترقت العالم السردي التخيلي رفدته بتجربة إنسانية منحته العمق والفرادة.
وننقل من الكتاب قول مؤلفه:
"أفلا تكون الرواية الجيدة هي الأخرى طبقا سرديا يتفنن فيه الروائي الطباخ بانتقاء مقادير شخوصه وأحداثه وأمكنته وأزمنته، مع إضافة ما يوائم ذلك من توابل سردية، ثم يطبخها على نار الخبرة والتجربة؟"
وتشير نصوص الكتاب إلى أن النقد الروائي لم يحفل بـ"أطعمة الرواية" ولم ينسجم معها، بدليل خلو مدونته الواسعة من أي كتاب تفصيلي استقل بتناول هذا المكون الحيوي بأي صيغة، سواء أكانت وصفية أم تاريخية أم تأويلية.
وأرجع الكتاب سبب ذلك إلى النظرة الذكورية التي تحكمت في التناول النقدي للنصوص الأدبية، الأمر الذي جعل كثيرا من النقاد ينظرون إلى "الروايات الطعامية" على أنها أدب من الدرجة الثانية أو الثالثة، وذلك بحسب نصوص الكتاب.
وتشير نصوص الكتاب إلى أن البعض رأى في مشاهد الطعام والشراب "شأنا نسائيا خالصا"، وكأنه موضوع مبتذل لا يليق بوقار النقد أن يخوض فيه ويعتني بتفاصيله.
وجاء كتاب "مطبخ الرواية.. الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير" في إطار سعي مؤلفه إلى سد الفراغ في الدراسات النقدية التي تتناول موضوع الطعام في السرديات الأدبية، وذلك عبر اعتماد مقاربة موضوعاتية منفتحة على القراءة الثقافية والتناول البلاغي الموسع.
وقد توزعت مادة الكتاب على 3 فصول، فحمل الفصل الأول عنوان "روافد الطعام الروائي"، وعمل فيه المؤلف على تحديد المراجع التي استندت إليها الرواية العربية في الأفق التراثي العربي من خلال نماذج سردية من أخبار الطفيليين وأخبار البخلاء وأدب المقامات.
واستحضر المؤلف كذلك في الفصل الأول من الكتاب الأفق الحديث الغربي والأميركي اللاتيني، وذلك من خلال التركيز على 4 أعمال روائية مهمة، هي: "طعام.. صلاة.. حب" للروائية الأميركية إليزابيث جيلبرت، و"ذائقة طعام هتلر" للروائية الإيطالية روزيلا بوستورينو، و"كالماء للشوكولاتة" للروائية المكسيكية لاورا إسكيبيل، و"أفروديت" للروائية التشيلية إيزابيل الليندي.
وجاء الفصل الثاني من الكتاب بعنوان "الرواية العربية والطعام المشهدي"، وتتبع فيه المؤلف المحطة الأولى من السرد الروائي العربي، ورصد فيه الحضور المشهدي للتوصيفات الطعامية وما تعبر عنه من دلالات ومقاصد تتصل بـ3 أنساق كبرى، هي: "الطعام هوية"، و"الطعام رسالة"، و"الطعام سلاح".
وتوقف المؤلف في هذا الفصل عند 6 روايات تمثل 4 فضاءات عربية، فمن مصر تناول رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، ورواية "الإفطار الأخير" لهشام شعبان، ومن المغرب استعرض رواية "بعيدا من الضوضاء.. قريبا من السكات" لمحمد برادة، ورواية "جيران أبي العباس" لأحمد التوفيق، ومن سوريا تناول رواية "المهزومون" لهاني الراهب، ومن تونس اختار رواية "الطلياني" لشكري المبخوت.
أما الفصل الثالث من الكتاب فحمل عنوان "الرواية العربية والطعام التضفيري"، وفيه توقف المؤلف عند تعاظم الاهتمام باللون الطعامي في السرد الروائي العربي، وكيف غدا موضوعا يضفر السرد والوصف والشخصيات والفضاء واللغة.
وتناول فيه حضور الطعام في 3 نصوص روائية، هي: "كحل وحبهان" للروائي المصري عمر طاهر، ورواية "برتقال مر" للروائية اللبنانية بسمة الخطيب، ورواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للروائي الليبي محمد النعاس.
وتدلنا صفحات الكتاب على أن الرواية العربية لم تكن بمنأى عن التفاعل النصي مع السرديات العربية القديمة والروايات الأجنبية الحديثة والمعاصرة، بل اتخذت منهما رافدين مركزيين لبناء منجز سردي يطمح من خلاله الروائيون الجادون إلى إنتاج "نص ثالث" يراعي حاجات الخصوصية وضرورات التميز.
كما أن الروائي العربي نفسه له تجاربه الخاصة كإنسان مع عوالم الأكل والشرب، فضلا عن أنه يعيش في وطن كبير يزخر بمخزون ثقافي متنوع، تشكل ثقافة الطعام إحدى لبناته المعبرة عن احتفاء استثنائي بقيمة الكرم الآتية من ماض صحراوي بعيد.
وعدّ الكتاب "وصف الطعام وتسريده" واحدا من أشكال التفاعل النصي الذي أقامته الرواية العربية مع ماضي السرد العربي من جهة وحاضر الرواية الأجنبية من جهة أخرى، حيث عمل الروائيون العرب على دمجه في عوالمهم السردية للنهوض بغايات جمالية (إستيتيقية) وثقافية وفكرية متعددة.
ولفتت نصوص الكتاب إلى أن المطّلع على المدونة التراثية العربية في تنوعاتها اللغوية والتاريخية والعلمية والاجتماعية والأدبية يلاحظ بوضوح مدى الحضور الوازن لخطاب الطعام الذي لا ينحصر في وصف المآكل والمشارب، بل يميل إلى فتح آفاق رحبة للتشابك مع قضايا الهوية العربية الإسلامية حين تصنفه المدونة التراثية إلى حلال وحرام وتسيجه بمنظومة من الآداب والقيم.
كما يتداخل مع قضايا المثاقفة المتجلية في ارتحال الأطعمة والأشربة بين الفضاءات العربية وغير العربية، ومع قضايا التدافع الحضاري التي جعلت من بعض الاختيارات الطعامية للأمم وسيلة للازدراء والتحقير.
وأبرز الكتاب كيف اعتنى السرد العربي القديم بثيمة الطعام، فجعلها مؤطرة بأنماط سردية تراثية مختلفة، مثل: الأخبار والرحلات والمنامات والمقامات، والتمس لها ساردون، وشخصيات كريمة معطاءة أو بخيلة مقترة أو طفيلية شرهة، وأسبغ على الفضاءات أوصافا تتنوع بين التمطيط والتقليص.
وسرد الأكاديمي والكاتب المغربي الدكتور سعيد العوادي في خاتمة كتابه مجموعة من النتائج جاء من بينها: