آخر الأخبار

العلاج النفسي في مصر: ارتفاع الأسعار يثير مخاوف مجتمعية

شارك
مصدر الصورة

"حاول ابني أن يلقيني من الدور السادس"... بهذه الكلمات يصف نجار بسيط محنته مع ابنه المصاب بمرض الذهان، الذي يثير لديه شعوراً غير حقيقي بالاضطهاد من الأب، بحسب الطبيب أحمد حسين، منسق مبادرة "مصيرنا واحد" المعنية بالوضع الصحي النفسي في مصر.

يضيف حسين أن الأب اضطر لإخراج ابنه من مستشفى حكومي لعدم قدرته على دفع التكاليف الجديدة للإقامة التي تجاوزت خمسة آلاف جنيه (نحو 100 دولار أمريكي)، وذلك بعد قرار وزارة الصحة المصرية الأخير برفع أسعار عدد من خدمات الصحة النفسية في المستشفيات الحكومية.

يوضح الطبيب النفسي أحمد حسين أنه مع انقطاع العلاج قد تنتكس حالة الابن وتتحول إلى مصدر خطر على نفسه وعلى من حوله، ويؤكد أن هذا المثال يعكس حال كثير من المرضى النفسيين الذين قد لا يتحملون تكلفة العلاج بعد الزيادة.

سيدة أخرى تصف معاناتها مع أخيها الأربعيني المصاب بالفصام، والذي يعاني من أفكار انتحارية متكررة. كان يتلقى رعاية في مستشفى العباسية للصحة النفسية في القاهرة، لكنها فوجئت بطلب دفع 5400 جنيه (نحو 100 دولار) لتكلفة الإقامة، بعد أن كانت تدفع أقل من ألف جنيه (نحو 20 دولاراً) سابقاً، وتؤكد أنها عاجزة عن تدبير المبلغ بعد الزيادة، بحسب مالك عدلي، المحامي في المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

مصدر الصورة

دعوى قضائية ضد القرار

تقول الصحفية المصرية المتخصصة في الشؤون الصحية، منى زيدان، إن اللائحة المالية والإدارية الجديدة الخاصة بمستشفيات أمانة الصحة النفسية أقرت زيادة أسعار الخدمات، بما في ذلك العيادات الخارجية، والإقامة في الأقسام الداخلية، وخدمات المعامل والأشعة، كما رفعت تذكرة الكشف في العيادات الخارجية من جنيه واحد إلى عشرة جنيهات (أقل من ربع دولار أمريكي)، بينما ارتفعت في العيادات التخصصية إلى عشرين جنيهاً (أقل من نصف دولار أمريكي).

على أثر هذا القرار، أطلقت حملة "مصيرنا واحد"، بالتعاون مع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية واثنين من المرضى المتضررين، دعوى قضائية لإلغائه، تستند إلى الدستور والقانون المصري، اللذين يُلزمان الدولة بتقديم الخدمات الصحية للمواطنين.

يوضح المحامي مالك عدلي أن الأساس القانوني للدعوى هو الدستور والقانون، ويؤكد أن "الخدمات الصحية ليست مجانية، بل حق دستوري للمواطن الذي يمولها من خلال دفعه الضرائب ومساهمته في الناتج القومي"، واصفاً تبرير الحكومة رفع أسعار هذه الخدمات بسبب ارتفاع التكاليف بأنه "تنصل من مسؤولياتها الدستورية، ويعكس خللاً في ترتيب الأولويات".

"لحظة تطبيق القرار كانت صادمة"

تصف الطبيبة مريم (اسم مستعار)، التي تعمل في مستشفى العباسية الحكومي للصحة النفسية لحظة تطبيق القرار، بأنها كانت "صادمة"، وتشير إلى أن التنفيذ بدأ مطلع أغسطس آب الماضي دون أي تمهيد مسبق.

تقول الطبيبة في مستشفى العباسية إن الوضع صعب بالنسبة لأسعار حجز المرضى في الأقسام الداخلية، فقد جرى خلال السنوات الأخيرة تحويل الأقسام المجانية تدريجياً إلى أقسام اقتصادية، وتوضح أن أقل سعر للحجز الآن هو 4500 جنيه شهرياً (نحو ألف دولار أمريكي)، دون أن يشمل تكلفة التحاليل أو العلاجات الخارجية.

"هذا المبلغ كان في السابق يمثل الحد الأقصى لبعض الدرجات، والآن أصبح هو الحد الأدنى"، على حد وصفها.

تضيف الطبيبة أن تكلفة العلاج في العيادات التخصصية زادت عشرين ضعفاً في شهر واحد، وهي عيادات مخصصة للأطفال والمراهقين، ولحالات التوحد والإدمان.

تضيف مريم: "كانت صدمة كبيرة للمرضى. كثيرون يأتون إلى المستشفى ثم يرحلون دون علاج، فمستشفى العباسية يرتاده أشخاص من طبقات معدمةٍ، وبالكاد يدبرون ثمن المواصلات من أماكن بعيدة جداً"، تضيف مريم.

ولاحظت الطبيبة من خلال عملها أن النساء من الطبقات الاجتماعية البسيطة اللاتي يحملن عبء البيت والأولاد، تراجعت أعدادهن بشكل ملحوظ بعد القرار، إذ يفضلن مصلحة أسرهن وتوفير المال من أجلهم.

وفق نتائج المسح القومي الشامل لتعاطي المواد المؤثرة في الحالة النفسية الذي أجرته الحكومة المصرية عام 2020، تبلغ نسبة الإدمان بين المواطنين حوالي 2.3%، بينما تبلغ نسبة تعاطي المخدرات 5.3%، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات.

ويقول الدكتور أحمد حسين إن نحو ربع سكان مصر يعانون من أعراض نفسية، استناداً إلى نتائج المسح القومي للصحة النفسية الصادر في عام 2018، أي أن شخصاً واحداً من كل أربعة مفحوصين لديه عرض أو اضطراب نفسي.

مصدر الصورة

تداعيات مجتمعية "خطيرة"

حذر أطباء تحدثوا لبي بي سي من تداعيات اجتماعية وأمنية وخيمة لهذا القرار.

تقول الطبيبة مريم إن المريض النفسي الذي لا يتلقى العلاج يصبح عبئاً على أسرته، وقد تضطر الأسرة للتخلي عنه، ليجده المجتمع في الشارع. هذا لا يؤدي فقط إلى مشاكل اجتماعية واقتصادية، بل أيضاً إلى مشاكل أمنية.

وتؤكد أن أي تصرف يصدر عن المريض العقلي أو النفسي هو غير إرادي تماماً، ولا يقصد منه إيذاء نفسه أو الآخرين، بل هو نتاج المرض وغياب الرعاية الطبية المناسبة.

وتوضح أن من أخطر الأمراض التي ستتأثر بشدة بهذا القرار هو الفصام، حيث يؤدي انقطاع العلاج إلى عودة الهلاوس والضلالات، والتي قد تدفع المريض لإيذاء نفسه أو الآخرين، خاصة الهلاوس الآمرة التي قد تأمره بالانتحار أو الاعتداء على شخص آخر.

كما تحذر الطبيبة في مستشفى العباسية من تأثير القرار على فئات ضعيفة مثل النساء اللاتي غالباً ما يضحين بصحتهن من أجل أسرهن، والأطفال الذين قد يُدمر مستقبلهم إذا لم يتلقوا العلاج المبكر، والمدمنين الذين قد ترتفع لديهم معدلات الانتكاس.

مصدر الصورة

القرار لا يُطبق على الأقسام المجانية

تقول الصحفية المصرية المتخصصة في الشؤون الصحية منى زيدان إن القرار الأخير بزيادة الأسعار يُطبق فقط على الأقسام الاقتصادية التي يتحمل فيها المريض كل أو جزء من تكلفة علاجه، بينما تظل الخدمات مجانية للمشمولين بالتأمين الصحي أو قرارات العلاج على نفقة الدولة، وللحالات الطارئة والخطرة أو حالات الحجز القضائي أو المشردين القادمة عن طريق الشرطة.

"أسعار الخدمات لا تزال قليلة"

تقول النائبة المصرية السابقة الطبيبة شادية ثابت إنها تتفهم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجه الكثير من العائلات، خاصة ذوي الدخل المحدود، لكنها ترى في الوقت ذاته أن "أسعار الخدمات الصحية في مصر لا تزال قليلة مقارنة بالتكلفة الحقيقية لها".

توضح ثابت، وهي طبيبة نساء وتوليد، أن العلاج النفسي يمثل أهمية كبرى، إذ يرتبط بظهور أمراض عضوية خطيرة قد تصل إلى الأورام، لافتةً إلى أن مصر من أقل الدول في تكلفة الخدمات الطبية، وتضم في الوقت نفسه نخبة من أمهر الأطباء وتوفّر مستويات رعاية متميزة.

وتضيف أن قانون التأمين الصحي الشامل يستهدف تقديم خدمات تتناسب مع مختلف الشرائح الاقتصادية، وأن تمويل هذه الخدمات يعد أمراً أساسياً لاستمرارها، موضحة أن القانون يطبق حالياً في مدن القناة كمرحلة أولى، تمهيداً لتعميمه على جميع أنحاء مصر.

وتوضح النائبة السابقة أن غالبية المترددين على المستشفيات الحكومية من ذوي الدخل المحدود، ورغم أنها ترى أن أسعار تذاكر العيادات الخارجية ليست مرتفعة، إلا أنه من الضروري أن تكون تكلفة الإقامة والعلاج مناسبة لظروف المواطنين، لأن علاج المريض النفسي يشكل تحدياً كبيراً للأسر.

وتؤكد ثابت أنه يمكن لغير القادرين إجراء بحث اجتماعي، يثبت عجزهم المادي عن تحمل تكاليف العلاج في القسم المجاني، أو الاستفادة من التأمين الصحي الحالي الذي يغطي التكاليف، لحين التطبيق الكامل لنظام التأمين الصحي الشامل التكافلي، الذي سيتكفل بتغطية نفقات العلاج عن غير القادرين بأسعار رمزية.

كما تشير النائبة السابقة شادية ثابت إلى أن هناك عدداً من المراكز التي تقدم خدمات علاجية مجانية بالكامل، من بينها مركز إمبابة لعلاج وتأهيل مرضى الإدمان، الذي أُنشئ بالشراكة بين صندوق مكافحة الإدمان ووزارة الصحة والسكان، ويقدّم خدمات علاجية وتأهيلية بمستوى عال من الجودة وبسرية تامة. وقالت إنها ساهمت في إنشاء هذا المركز خلال عملها البرلماني في دورة 2015 – 2021.

مناشدات للقضاء: "نرجو ألا تخذلنا المحكمة"

يعلق محامي المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مالك عدلي، آمالاً كبيرة على القضاء في إلغاء القرار، قائلاً: "الأمل في الله، نرجو أن تتفهم المحكمة الظروف. هذا قرار إداري لا يجوز أن يخالف القانون أو الدستور، ولا يجوز أن يصدر لغير غاية الصالح العام". ويؤكد: "لدينا حالات إنسانية متضررة، وحجج قوية، ودافع مشروع للجوء إلى القضاء، ونرجو ألا تخذلنا المحكمة إن شاء الله".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار