بينما تدور أضواء مهرجان "كان" السينمائي حول أبرز نجوم الفن السابع في العالم، حظي اسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنصيب الأسد من الأحاديث، ليس فقط على السجادة الحمراء، بل خلف الكواليس، وفي الكواليس السياسية التي تسكن قلب الحدث.
ففي الوقت الذي يتابع فيه عشاق السينما عروض الأفلام المتنافسة على "السعفة الذهبية"، تدور نقاشات محتدمة بين المنتجين والموزعين وصنّاع القرار حول التهديدات التي تُلقيها إدارة ترامب بظلالها على الصناعة، من رسوم جمركية تطال الأفلام غير الأميركية، إلى مساعٍ للضغط على الاتحاد الأوروبي لتغيير قواعد حماية المحتوى المحلي في منصات البث العالمية.
وبدا أن "كان" هذا العام ليس مجرد مهرجانا للأفلام، بل ساحة مفتوحة لصراع ثقافي تتقاطع فيه الكاميرات مع السياسات، وتتصادم فيه حرية الإبداع مع حسابات التجارة والهيمنة الثقافية.
وبحسب موقع "بوليتيكو"، ففي اجتماعات منتجو وموزعو الأفلام سواء في أجنحة الفنادق، أو الأجنحة الخاصة على شاطئ البحر، أو في المقاهي، لا بد أن يطفو اسم ترامب وحملته ضد السينما غير الأميركية في لحظة ما من الحديث.
تهديد
في أوائل مايو، هدّد الرئيس الأميركي بجرّ صناعة السينما إلى حربه التجارية مع باقي العالم، عبر فرض رسوم جمركية على الأفلام "الأجنبية".
وما يقلق القطاع الأوروبي أكثر هو أن إدارة ترامب أعلنت أيضًا حربًا ضد قواعد الاتحاد الأوروبي التي تتيح لحكومات الدول فرض التزامات على منصات البث، وغالبًا ما تكون أميركية، للاستثمار في الإنتاجات الأوروبية.
كما كان المهرجان الدولي فرصة للهجوم على سياسات ترامب، إذ استغل الممثل الهوليودي روبرت دي نيرو الحدث لانتقاد الرئيس الأميركي.
وقال دي نيرو الذي وصف ترامب بأنه "رئيس جاهل" أمام حشد واسع من الفنانين والنقاد: "في بلدي، نناضل بشراسة من أجل الديمقراطية التي كنا نعتبرها أمرًا مسلمًا به (...) هذا يؤثر علينا جميعًا هنا، لأن الفنون ديمقراطية، وشاملة، وتوحد الناس. الفن يبحث عن الحقيقة. الفن يحتضن التنوع، ولهذا السبب يُشكّل الفن تهديدًا".
وعبّر المخرج الفرنسي بيير جوليفيه عن المخاوف الراهنة بشأن صناعة السينما بالقول إن "الأجواء باتت أكثر تسييسًا، بل وجيوسياسية، مما كانت عليه من قبل (...) لقد فهمنا أن الولايات المتحدة باتت عدوًا لنا، سياسيًا وثقافيًا".
وسخر المخرج الأميركي ويس أندرسون من خطة ترامب الرامية إلى فرض رسوم جمركية مشددة على الأفلام المصنوعة خارج الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن المتضررين الأوائل سيكونون صناع أفلام مثله، وأن تنفيذ هذه الخطة غير قابل للتطبيق من الناحية العملية.
بيد أنه منذ إعلان ترامب في 5 مايو، لم يقدم الرئيس الأميركي أي تفاصيل إضافية بشأن خطته المتعلقة برسوم الأفلام، في الوقت الذي جرى تداول رسالة مفتوحة موقعة من كبرى الاستوديوهات، ونقابات العاملين في صناعة السينما، تدعو الحكومة إلى إحياء صناعة السينما الأميركية عبر حوافز ضريبية.
ويُنظر إلى تهديد ترامب بفرض الرسوم على أنه محاولة لإعاقة المنتجين عن تصوير أفلام خارج الولايات المتحدة، في الوقت الذي تشير الأرقام إلى انخفاض التصوير في لوس أنجلوس بنسبة 22% في الربع الأول من هذا العام، بسبب عدة عوامل من بينها كلفة الإنتاج.
تقاطع السياسة والثقافة
من باريس، اعتبر الأكاديمي الفرنسي وأستاذ العلاقات الدولية، فرانك فارنيل، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن الجدل الأخير بشأن تصريحات ترامب والتي ألقت بظلالها على مهرجان كان يثير تساؤلات مهمة حول تقاطع السياسة والثقافة وحرية التعبير.
وقال "فارنيل" إن مهرجان كان أكثر بكثير من مجرد احتفال بالسينما؛ إذ ينظر إليه باعتباره منصة عالمية تتلاقى فيها السرديات المتنوعة، وتتحدى المعايير الاجتماعية، وتُشعل حوارات ذات مغزى، ومع ذلك، فإن التدخل السياسي في مثل هذه المراكز الثقافية يُهدد الحرية الفنية التي تُعد ضرورية لتعزيز الفهم عبر الثقافات.
وأكد الأكاديمي الفرنسي أن مهرجان كان دافع لعقود عن المقاومة السياسية والحرية الفنية، كما يوفّر مساحة للأصوات المتنوعة لسرد قصصها، مُشعلًا بذلك حوارات عالمية من خلال وسيلة السينما، في حين تُعرض السياسات المقترحة، مثل فرض الرسوم الجمركية على الأفلام الأجنبية أو التغييرات المحتملة في توجيهات الاتحاد الأوروبي السمعية والبصرية، مهمة المهرجان في تعزيز التنوع الثقافي للخطر.
وبيّن أن القيود المفروضة على الأفلام الأجنبية يمكن أن تُعيق التدفق الحر للأفكار وتحدّ من الوصول إلى السرديات الفريدة، كما تُهدد بـ"إسكات الأصوات المُهمّشة والحد من الابتكار في السينما العالمية" وفق تعبيره.
وعلى مسافة قريبة، تقول المحللة السياسية جيهان جادو المقيمة في مدينة فرساي الفرنسية، لـ"سكاي نيوز عربية"، إن السينما والثقافة العالمية تتأثر بشكل مباشر بالتحولات السياسية التي تشهدها مختلف الدول، ومثّل مهرجان كان السينمائي هذا العام انعكاسًا واضحًا لهذه الحالة.
وأضافت "جادو" المتابعة لمجريات مهرجان كان، أن مواقف صنّاع السينما، تناولت بشكل لافت التغيرات السياسية المرتبطة بالرئيس الأميركي، سواء فيما يتعلق بمواقفه المتذبذبة من القضايا السياسية، أو ملف الرسوم الجمركية، أو المتغيرات الجيوسياسية الراهنة، موضحة أن المهرجان بدا هذا العام وكأنه منصة ثقافية تعبر عن رفض تصاعد اليمين وتيارات الشعبوية في العالم، مؤكدة أن السينما ليست بعيدة عن التوترات الدولية، بل أصبحت وسيلة فنية لرصدها ومواجهتها.
ومضت قائلة إن "الثقافة وحرية الفن ستبقى دائمًا الملاذ الحقيقي للتعبير عن ما يحدث في العالم، ومن الطبيعي أن تتحوّل مثل هذه المحافل الكبرى إلى أرض خصبة للأعمال التي تُعبر عن هذه الهواجس".