كثيرًا ما تختصر جملة واحدة تجربة شعوب وحركات كاملة، ولعل مقولة الجنرال الفيتنامي فون نجوين جياب "الثورة والثروة لا يلتقيان" تُعدّ من أكثر العبارات قدرة على كشف التناقض العميق بين الفكرة والمصلحة، وبين الوعي والامتياز. فجياب، الذي قاد واحدة من أنجح حركات التحرر في القرن العشرين، لم يتحدث من موقع الواعظ، بل من موقع القائد الذي عاش الثورة حياة يومية قائمة على التقشف والانضباط والمساواة. من هذا المنطلق جاءت انتقاداته لقادة فصائل ثورية انغمسوا في مظاهر البذخ فيما بقيت شعوبهم في المخيمات، معتبرا أن قيادة لا تشارك شعبها معاناته لا يمكنها أن تقوده إلى التحرير، وأن الثورة حين تنفصل عن الوعي تتحول إلى عنف، وحين يغدق عليها المال تتحول قياداتها إلى طبقة مستفيدة لا تريد التغيير.
هذه
القاعدة لا تنتمي إلى سياق فيتنام وحدها، بل تتكرر كلما تحولت الثورة من مشروع تحرري إلى أداة نفوذ. فالانتصار، في مثل هذه الحالات، لا يعود هدفا، بل يصبح خطرا على من راكم الامتيازات، وتغدو الشعارات مجرد غطاء لإدامة واقع لا يراد له أن يتغير. عندها تفقد الثورة معناها الأخلاقي، وتبدأ بالتآكل من الداخل قبل أن تهزم في الخارج.
في تجربة "
حزب الله "، يبرز هذا التحدي بوضوح. فالحزب الذي نشأ عام 1982 في قلب الاجتياح
الإسرائيلي للبنان، واعتمد منذ لحظاته الأولى على العامل البشري والإيمان بالقضية والتجذر في بيئته الشعبية، قدّم نموذجا مختلفا للمقاومة، وكان الشهيد أحمد قصير أحد أبرز رموزه التأسيسية، حين جسّد في ذلك العام معنى التضحية القصوى بوصفها فعلا واعيا مرتبطا بهدف التحرير لا بالاستعراض. وعلى هذا الأساس، راكم الحزب إنجازات كبرى توجها تحرير الجنوب عام 2000، ثم صموده في حرب تموز عام 2006، حيث أثبت مرة أخرى أن قوة المقاومة لا تقاس بحجم ترسانتها فقط، بل بصلابة بنيتها البشرية وقدرتها على الاحتمال.
غير أن اتساع الدورين العسكري والسياسي بعد تلك المحطات، وتراكم الموارد، سمحا بظهور اختلالات داخلية، حين جمعت في بعض المواقع بين خطاب المقاومة وممارسات لا تنسجم مع روحها الأولى. وقد أدرك
الأمين العام السابق الشهيد السيد حسن نصر الله خطورة هذا المسار، فعمل بصمت على معالجة العديد من الثغرات، بعيدا عن الإعلام، حرصا على وحدة الحزب ومنعًا لتحول النقد الداخلي إلى مادة استثمار خارجي.
جاءت الحرب
الإسرائيلية الأخيرة، وما رافقها من دمار واسع واغتيالات طالت قيادات بارزة، لتضع الحزب أمام واحدة من أصعب مراحله منذ تأسيسه. فاستشهاد السيد نصر الله والسيد هاشم صفي الدين لم يكن حدثا عابرا، بل شكل صدمة قاسية على المستويين القيادي والمعنوي، وفتح الباب أمام مراجعات داخلية عميقة. وفي هذا السياق، لم تكن الأسئلة التي طرحت حول ما أصاب الحزب محصورة داخل الحزب أو داخل
لبنان ، بل جاءت أيضا من
إيران عبر مسؤوليها الذين حضروا إلى لبنان بعد الاغتيالات، حيث جرى نقاش صريح حول مكامن الخلل ومن يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور.
وقد استخدمت هذه الأسئلة لاحقا من قبل بعض الجهات الداخلية في الحزب لترويج روايات عن تخلي الجمهورية الإسلامية عن الحزب، في محاولة لتحميل الخارج نتائج أزمة تعود في جوهرها إلى عدد من المسؤولين، كلٌّ وفق مهامه العسكرية. علما أن الوقائع تشير إلى أن الحزب لم يكن في يوم من الأيام كيانا قائما على أن تتولى إيران الدفاع عنه في مواجهة
إسرائيل ، وإن كانت ولا تزال تموله ماديا، بل كان في مراحل عدة مصدر خبرة عسكرية وتنظيمية لحلفائه، سواء في
سوريا أو العراق أو اليمن.
مع تولي الشيخ نعيم قاسم الأمانة العامة، دخل الحزب مرحلة إعادة بناء قاسية لكنها ضرورية. فالشيخ قاسم، الذي لم يغادر لبنان طوال الحرب ورفض عروض الإيرانيين بالسفر أو الإقامة خارج البلاد، اختار مقاربة ترتكز على ترميم الداخل أولًا، من خلال إعادة الاعتبار لمعايير المسؤولية، وسحب الامتيازات، وتقليص الصلاحيات، وإبعاد مَنْ حوّل الموقع التنظيمي إلى مكسب شخصي. فضلا عن ذلك، فإن الحزب الذي يعيد بناء نفسه ويستعيد جاهزيته، لا يعتمد في هذه الجاهزية على قوة الصواريخ أو على حرب الطائرات، بل على القواعد التي نشأ عليها منذ تأسيسه، والتي تمنحه صلابة استراتيجية وعملية، فهناك توجه كبير للعودة إلى النموذج الذي حكم مسيرة الحزب في أعوام 1982 و2000 و2006، وحرب الأيام الستة والستين في عام 2024، أي نموذج المقاومة المبني على الإنسان والانضباط والالتصاق بالبيئة، مع الحفاظ على روح التضحية والإصرار على الثوابت التنظيمية والقيمية.
الرهان اليوم، كما في البدايات، عند "حزب الله"على البيئة الحاضنة وعلى المقاومين الشرفاء الذين شكلوا دائما الرصيد الحقيقي. فالتاريخ يثبت أن الحركات التي تعود إلى جذورها الأخلاقية قادرة على النهوض من تحت الركام، بينما تسقط تلك التي تسمح بانفصال القيادة عن شعبها، مهما امتلكت من عناصر القوة.
وهنا تعود مقولة فون نجوين جياب لتفرض نفسها مجددًا: الثورة والثروة لا يلتقيان. وحين يُصرّ البعض على جمعهما، لا تموت الثورة فجأة، بل تتآكل ببطء، إلى أن تفقد روحها، ويصبح الانتصار مؤجلًا لأن من يفترض بهم قيادته لم يعودوا يريدونه.