كشف تقرير Gallup للأمان العالمي لعام 2025 عن نتائج لافتة فيما يتعلق بالشعور بالأمان أثناء المشي ليلاً في العالم العربي. فقد جاءت خمس دول عربية في المراكز الأخيرة على المؤشر، هي:
لبنان بنسبة أمان لا تتجاوز 52%، تليه
فلسطين بنسبة 56%، ثم
تونس وموريتانيا بنسبة 64%، وأخيرًا
جزر القمر بنسبة 67%. ورغم أن هذه الأرقام تعكس واقعًا صعبًا في عدّة مناطق من المنطقة، إلا أنّ لبنان يتصدّر القائمة بفارق واضح، ما يجعل وضعه
حالة خاصة تستحق قراءة معمّقة تتجاوز الجانب الأمني المباشر إلى جذور الأزمة التي يعيشها البلد منذ سنوات.
منذ الانهيار المالي الذي ضرب لبنان في عام 2019، تسير البلاد في مسار تراجعي لا يبدو أنه توقّف بعد. فقد تهاوت قيمة العملة المحلية، وتعطّلت
مؤسسات الدولة ، وتراجعت
الخدمات العامة إلى مستوى غير مسبوق. هذه التحولات طالت القطاع الأمني بشكل مباشر، إذ باتت
الأجهزة الأمنية تعمل بإمكانات محدودة للغاية مقارنة بالسنوات السابقة.
تشير تقديرات محلية إلى "أنّ رواتب العسكريين والأمنيين فقدت معظم قيمتها، ما دفع بعضهم إلى البحث عن مصادر دخل بديلة، أو تقليص ساعات العمل، أو حتى ترك الخدمة. هذا الواقع انعكس على قدرة قوى الأمن على الانتشار الفعّال، خصوصًا في الليل، حيث باتت العديد من المناطق تعتمد على حماية مجتمعية غير رسمية بدلًا من وجود الدولة".
ولا يمكن قراءة مؤشر الأمان الليلي في لبنان من دون التوقف عند أزمة الكهرباء المستمرة. فالانقطاع شبه المستمر للتيار وغياب الإنارة العامة في المدن والبلدات يجعل الحركة الليلية أكثر خطورة. الطرقات المظلمة، والأحياء المهجورة بعد غروب الشمس، والاعتماد على المولدات الخاصة في أماكن محدودة كلها عوامل توفر بيئة مثالية للجرائم الصغيرة والمتوسطة.
ويُلاحظ أن الكثير من الحوادث المسجّلة خلال العامين الأخيرين برتبط إما بسرقات تجري تحت جنح الظلام، أو باعتداءات يسهل حصولها في غياب أي حضور أمني أو إنارة عامة.
ربما لا تكون الجريمة المنظمة قد شهدت ارتفاعًا كبيرًا كما يعتقد اللبنانيون، لكنّ الإحساس بانعدام الأمان هو ما تدهور فعليًا وبشكل حاد. فقد أدّى غياب المحاسبة وتراجع فعّالية الدولة إلى شعور واسع بأن البلاغات الأمنية قد لا تتم متابعتها بشكل كافٍ، وأن العدالة قد لا تتحقق في نهاية المطاف.
هذا الانقطاع في الثقة يوفر بيئة يعيش فيها المواطن حالة توتر مستمر، حيث يصبح أي صوت غريب أو حركة مريبة سببًا مباشرًا للقلق. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مضاعفًا في تضخيم صور الجرائم، إذ تنتشر مقاطع وصور الحوادث بسرعة، ما يرسّخ إحساسًا بأن الخطر يقترب من الجميع.
التدهور الاقتصادي الحاد من الفقر المتزايد إلى البطالة وغياب فرص العمل فتح المجال أمام نمو أنواع من الجرائم التي ترتبط مباشرة بالضائقة المعيشية. وتقدّر جهات محلية أن "معظم حوادث السرقة التي تُسجَّل هي جرائم بدافع الحاجة أكثر منها جرائم منظّمة".
إن تصدّر لبنان قائمة
الدول العربية الأقل أمانًا ليلاً ليس مجرد رقم في تقرير عالمي، بل هو انعكاس لانهيار شامل يطال الاقتصاد والسياسة والخدمات العامة. إن استعادة الشعور بالأمان تحتاج إلى إصلاحات متكاملة تعيد الثقة بالمؤسسات، وتعيد للدولة قدرتها على حماية مواطنيها، قبل أي زيادة في عدد الدوريات أو الإجراءات التقنية.