لم تكن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى
لبنان حدثا عاديا، فهي تأتي في لحظة سياسية وكيانية شديدة الحساسية، تجعل منها أكثر من محطة روحية أو بروتوكولية، في رمزيتها وتوقيتها.
وفي هذا السياق كتب ميشال نصر في"الديار": اوساط كنسية وثيقة الاتصال بدائرة البابا الضيقة، اشارت الى ان
المسيحيين في لبنان لم يعرفوا وحدة سياسية كاملة طوال تاريخهم، رغم
المحطات التي أدّت إلى تقاربات ظرفية بين بعض القوى الأساسية، حيث تحول "التنافس الحزبي" دوما إلى صراع رؤى، حول دور المسيحيين وموقعهم في النظام، ومسار الدولة، وحدود العلاقة مع القوى الإقليمية، وكيفية إنتاج السلطة، وصولا إلى مفهوم "الشراكة" و "اللامركزية" و "الحياد".
من هنا، تكتسب زيارة البابا لاون دلالات مضاعفة، على ما تقول الاوساط، اذ ان الفاتيكان ليس مجرد مرجعية روحية للمسيحيين في لبنان، بل هو أيضا لاعب سياسي صاحب رؤية استراتيجية راسخة تجاه "لبنان الرسالة"، ولديه تقليد طويل في التدخل الهادئ، عندما يشعر بأنّ التجربة
اللبنانية مهددة في جوهرها، وهو الواقع اليوم، حيث يشعر الكرسي الرسولي أن الشرخ المسيحي الداخلي، بات ينعكس مباشرة على التوازن الوطني، وأن استمرار الخلافات الحادة داخل البيت المسيحي، بات يشكل أحد أسباب فقدان التوازن السياس، مع ما يستتبع ذلك من فوضى مؤسساتية وانهيار اقتصادي ، يشكل تهديدا وجوديا للبنى
المسيحية في التعليم والصحة والخدمات.
وتتابع الاوساط، بان اجواء الفريق المرافق لقداسته، تشير الى أنّ هناك مجموعة عوامل تدفع باتجاه اعتبار الزيارة فرصة لترميم العلاقة بين القوى المسيحية:
- أولها : سلطة ليون المعنوية وشخصيته الاستثنائية، ، وقد اختبرها الكثيرون من سياسيين واكليريكيين، كاشفة في هذا الاطار الى ان قداسته اطلع على مجموعة من الاسئلة التي وجهها اليه الشباب المسيحي، والتي تحدثت عن اسماء وتفاصيل، حيث وعد بدراستها واتخاذ اللازم.
- ثانيها: أنّ المسيحيين يعيشون اليوم هواجس مشتركة تتخطى خلافاتهم الحزبية: تراجع نفوذ الدولة، الهجرة الواسعة التي تهدّد الوجود الديموغرافي، وهو ما تقصد الاشارة اليه في من مقر الرئاسة الاولى تحديدا، الشعور بفقدان القدرة على التأثير في القرارات المصيرية، والتحولات الإقليمية التي تجعل لبنان مساحة صراع مفتوح.
- ثالثها: أنّ الدوائر الفاتيكانية تحمل مقاربة واضحة تجاه الاستحقاقات اللبنانية، تقوم على ضرورة الخروج من منطق التعطيل المتبادل، والعودة إلى صيغة تُعيد للمسيحيين إمكان تأدية دور محوري في الخيارات.
وتشير الاوساط الى ان البابا بدوره يحمل هواجس واضحة، فهو يدرك أنّ تشتّت المسيحيين لا يهدد دورهم فحسب، بل يهدد الصيغة اللبنانية بحد ذاتها، وهو ما يدفع الكرسي الرسولي إلى التعامل مع لبنان لا كمجتمع سياسي فقط، بل كرسالة عالمية للعيش المشترك، وهو ما يفسر حرصه التاريخي على استقرار
هذا البلد .
وختمت الاوساط بالاشارة الى ان الوقت الضيق للزيارة لم يكن كافيا لمقاربة كل الملفات والتعامل معها، ان لجهة عقد اجتماع "
مسيحي سياسي" موسع، او حتى قمم سياسية مع القيادات السياسية، مؤكدة ان ذلك سيحصل بالتأكيد من ضمن خطة تحرك تعدها الحاضرة الفاتيكانية، حيث ستكون هناك دعوات للقيادات لزيارة الفاتيكان وعرض افكارهم، تمهيدا لوضع "ورقة عمل" للتحرك على اساسها باتجاه دول القرار، جازمة بان قداسته يتابع الوضع في لبنان بدقة وعن قرب، حيث يضم فريقه المقرب اكثر من لبناني، يزورون
بيروت شهريا ويرفعون اليه التقارير، كما انه يعلم حقيقة الواقع الاجتماعي والاقتصادي وغياب الخدمات الاساسية.
وختمت الاوساط "بان الزيارة لا تعيد رسم الواقع المسيحي بل تكشفه"، وبالتالي فالفرصة التاريخية امامهم لترميم الهوية والتمثيل والدور، كيلا "تصبح مجرد محطة رمزية تضاف إلى سلسلة من اللحظات الضائعة"، خصوصا ان الانقسام بدأ يحصل في الجسم الكنسي، ويتسلل الى الرهبانيات.