تواجه "
القوات اللبنانية " في الآونة الأخيرة تراكماً في المواقف التي تعكس ارتباكاً في طريقة إدارتها للخطاب العام وللعلاقة مع شرائح واسعة من اللبنانيين. فبدل أن تستفيد من المناخ السياسي المتقلّب لتوسيع حضورها، تبرز لها تصريحات متتالية تُظهر انفصالًا عن المزاج الفعلي في أكثر من منطقة، وخصوصاً في البيئات التي لا تشكّل امتداداً طبيعياً للحزب. هذا المسار بدأ يثير اعتراضاً واضحاً لدى فئات تشعر بأن مقاربة "القوات" للتمثيل والتواصل أصبحت تفتقر إلى الحد الأدنى من الحسّ السياسي المطلوب لمرحلة دقيقة ومفتوحة على استحقاقات كبرى.
وضمن هذا المناخ أُعيد تظهير تصريح النائب
جورج عقيص قبل اسبوعين الى الواجهة، والذي حوّل
النقاش من مسألة انتخابية إلى سؤال أوسع حول طريقة تفكير "القوات
اللبنانية " وتعاملها مع الشراكة السياسية.
وفي المرحلة التي تستعدّ فيها البلاد للدخول في استحقاقات أساسية، بدا أنّ "القوات اللبنانية" تتحرّك وفق مقاربة تُعيد إظهار مشكلتها الجوهرية في إدارة حضورها خارج مناطق نفوذها التقليدية. فهي تتصرّف كطرف يريد تثبيت موقع قيادي داخل بيئات تملك تاريخها وحساسيتها الخاصة، بدل السعي إلى بناء تفاهمات متوازنة معها، الأمر الذي أثار استياءً واسعاً في الأوساط السنية، إذ إن هذا النهج، وفق المصادر، لا يأتي من فراغ، بل يعكس مساراً مستمراً يكشف محدودية تفهّم "القوات" لطبيعة التوازنات الدقيقة التي تتحكّم بهذه البيئات، وللمعادلات التي ترسم حضور القوى المختلفة داخلها.
وبعد توسّع بقعة الاعتراض، دخلت "القوات" في مستوى جديد من الإرباك. فالتعامل مع ردود الفعل بقي أسير منطق التبرير، كأنّ المشكلة تتعلّق بعبارة قالها
عقيص لا بالمقاربة التي تنتج هذا النوع من الخطاب داخل الحزب نفسه. هذا الأسلوب زاد حدّة التوتر، لأن الجمهور الذي تابع ما جرى لم يجد في التوضيح اللاحق أي استعداد لفتح نقاش جدّي حول حدود الدور السياسي الذي تحاول "القوات" تكريسه، بل محاولة للالتفاف على جوهر الإشكال. وهنا تحديداً برزت العقدة الأساسية، إذ تتحرّك "القوات" وفق ذهنية تقوم على الفوقية في إدارة العلاقة مع البيئات التي تحاول التقدّم نحوها، فيما الوقائع تُظهر أن أي قوة سياسية لا تستطيع تثبيت حضورها ما لم تنطلق من احترام المزاج المحلي وطبيعة توازناته.
وفي قراءة لطريقة تعاطي "القوات" مع هذا الملف، يظهر عنصر أساسي لا يمكن تجاهله. فالحزب يتحرّك بمنطق فائض قوة يجعله يتصرّف كأن دور الآخرين هو التكيّف مع إيقاعه، لا التفاهم معه. ووفق المصادر نفسها فإنّ هذا المنطق لا يقتصر على خطاب ظرفي، بل يشكّل جزءًا ثابتاً من سلوكه السياسي، إذ يتعامل مع التمثيل كمساحة يجب أن تُعاد صياغتها وفق موقعه، لا وفق طبيعة القوى الموجودة فيها. ومن هنا يصبح أي تصريح مشابه لما صدر مجرّد ترجمة علنية لهذا الشعور، لأن "القوات" تسعى إلى فرض موقع مرجعي على بيئات تعتبر أنّ حقّها في اختيار ممثليها لا يخضع لمعادلات تُحدَّد خارجها. وهكذا يتقدّم الخلل من مستوى الكلام إلى مستوى النهج، حيث يُبنى الدور السياسي على فكرة الإخضاع بدل الشراكة.
بالنتيجة فإنّ ما ظهر في الأيام الماضية لم يكن تفصيلًا عابراً، بل إشارة واضحة إلى حدود الدور الذي تستطيع "القوات" فرضه حين تتعامل مع التمثيل بوصفه امتداداً لموقعها لا نتاجاً لطبيعة الشارع نفسه. ولعلّ هذا الأسلوب لم يعد يمرّ بلا كلفة، إذ من الواضح أنه ترك أثراً مباشراً على مستوى الثقة بين الحزب والفئات التي يطمح إلى استقطابها، وأظهر أن خطاب السيطرة لا ينتج نفوذاً بل يفضح حجم المبالغة في تقدير القوة. وما يتقدّم اليوم ليس سؤالًا عن قدرة "القوات" على التصحيح، بل خلاصة بسيطة بأنّ هذا النهج بلغ سقفه، وأي محاولة لدفعه خارج حدوده الطبيعية لا تؤدي إلا إلى إبراز حجم
الفجوة بين ما تتخيّله "القوات" لنفسها وما يسمح به الواقع السياسي فعلًا.