كلام الرئيس جوزاف عون عن امتهان فئة من اللبنانيين «بخّ السمّ» في الولايات المتّحدة تكمن أهميته في صدوره عن رأس الجمهورية
اللبنانية .
وكتبت ندى ايوب في" الاخبار": في السنوات الماضية، نشأت في واشنطن مجموعات لبنانية صغيرة، بنت حضورها داخل مراكز الأبحاث والدوائر السياسية، وقدّمت نفسها كقوّة ضغط لمحاصرة
حزب الله واستجداء المساعدة للقضاء عليه. وبقي النشاط التحريضي لهؤلاء في إطار «الحملات السياسية» التقليدية التي لا تغيّر موازين في الداخل، لكنّها تثير ضجيجاً في الخارج... ليس في واشنطن فقط، بل في كلّ دولة لها تأثير في
لبنان كما في
السعودية حيث حُرّض على سعد
الحريري ، وكذلك في
بيروت حيث هناك، أفراد ومجموعات، يتبرّعون للقيام بالأعمال القذرة ويقدّمون أوراق اعتمادهم في عوكر.
ورغم أن استجلاب التدخّل الخارجي في الشؤون الداخلية والاستقواء به على فريق لبناني لتحقيق مكاسب سياسية، يتنافيان مع الشعارات «السيادية» التي يرفعها هؤلاء، إلّا أن سلوكهم بقي محصوراً في وجه خصم سياسي مُمثّلاً بحزب الله. لكنّ المشهد تغيّر تدريجياً مع وصول العماد جوزاف عون إلى بعبدا، إذ انتقل بعض هذه المجموعات إلى استهداف رئاسة الجمهورية والجيش.
وهو تحوّل لم يأتِ صدفة. فالرئيس الجديد لم يسر في نهج شريكه في الحكم رئيس الحكومة نواف سلام، واختار الموازنة بين الضغوطات الخارجية والمحاذير الداخلية، ورفض الانجرار إلى مواجهة داخلية تُستخدم فيها مؤسسات الدولة كأدوات ضغط. وهذا خطّ لا يروق لمن يفضّلون تحويل السلطة إلى منصة صدام، ولا لمن اعتادوا الاستثمار في التوتر ورفع السقوف أمام الخارج. كان يمكن لحادثة إضاءة صخرة الروشة، مثلاً، أن تتحوّل إلى نقطة اشتباك كبير. فالتوتّر كان حقيقياً، بعدما اختار سلام التجييش إلى الحدود القصوى. لكنّ عون، ومعه قيادة الجيش وقادة الأجهزة الأمنية، تعاملوا مع الحدث كما يتعامل أصحاب السلطة مع الألغام: بدقّة محسوبة، وبالتركيز على أولوية حجب الدم.
وهو سلوك لم يرُق لـ«السياديين» الذين كانوا ينتظرون صداماً يُعيد رسم المشهد على قياسهم. فبدأت عملية تشويه هدفت إلى ضرب صورة الرئاسة والجيش معاً، ومطالبات بإقالة
وزير الدفاع وقادة الأجهزة الأمنية، وقائد الجيش رودولف هيكل. حجب الدم وُصف بأنه خطأ، والحفاظ على الاستقرار بأنه «مهادنة» للحزب، وكأنّ الدولة مُطالَبة بأن تُنتج الفوضى كي تحضر في واشنطن بوصفها طرفاً نشطاً في المعركة. من هنا، عاد اسم «صبية واشنطن» إلى التداول، لا من باب التوصيف الشعبي، بل لأن خطابهم في الخارج بدأ يلامس خطوطاً حُمراً تتعلّق بدور الجيش وموقع الرئاسة. اللقاءات التي تُعقد هناك، والرسائل التي تُرسل إلى أعضاء الكونغرس، والتقارير التي تُكتب في مكاتب بعض المؤسسات الأميركية، لم تعد محصورة باستهداف خصم سياسي. بل صارت جزءاً من محاولة إعادة تعريف الدولة نفسها: من يحقّ له التحدّث باسمها؟ من يدير قرارها؟ ومن يحدّد السيادة التي يجب الدفاع عنها؟
وبينما يصرّ عون على أن الحلول في لبنان لا تُنتِجها المواجهات الداخلية بل الحوار، يعمل هؤلاء على تسويق سردية معاكسة تقوم على فكرة أن الدولة قاصرة، والجيش عاجز عن تنفيذ المطلوب منه بحصر السلاح، وأن الخارج هو الذي يملك القدرة على فرض قواعد جديدة لأن الدولة عاجزة عن احتكار القرار السيادي، وأن لبنان بحاجة إلى وسطاء وصاية جدد، وأنّ بعض هؤلاء «السياديين» خير من يقوم بالمهمة. هذا التوصيف ليس فقط خروجاً عن الحدّ الأدنى من مفهوم السيادة، بل محاولة مضادّة لإقناع الخارج بأن الجيش لا يستحق الثقة ولا التمويل ولا الدعم إذا لم يدخل في مواجهة دموية مع الحزب وبيئته. وهي حملة تتلاقى مع خطاب خارجي يريد إضعاف الدولة لصالح شبكات النفوذ. فتصوير الجيش كمؤسسة «غير قادرة» يضرب شرعيته في نظر المانحين الدوليين. وتشويه موقع الرئاسة لا يُضعِف شخص عون، بل قدرة لبنان على إدارة علاقاته في المرحلة الأكثر حساسية، سياسياً وأمنياً، منذ سنوات.هكذا، يتحوّل جزء من التيار الذي يسمّي نفسه «سيادياً» إلى خصم مباشر للدولة، لا خصم لحزب داخلها. يصطدم بالرئيس حين يرفض الصدام، ويصطدم بالجيش حين يرفض إطلاق النار، ويصطدم بالأجهزة حين تختار إدارة الشارع بحكمة، ويصطدم بالمعتدلين في الحكومة، ويقود حملةً ضد رئيس مجلس النواب لأنه يرفض التطوّع في مشروعه.
هذا التيار يحارب الدولة لأنها لا تتبنّى أجندته بالمواجهة العُنفية. ورغم خطورة هذا الخطاب، يتمسك به أصحابه، إذ يرون في أي اهتزاز داخلي فرصة لتعظيم حضورهم في واشنطن، ولإعادة تركيب مشهد لبناني يناسب طموحاتهم. في المقابل، لا يزال بعض رموز الدولة يواجهون هذا المشهد بخيار واضح: رفض كل ما يمسّ بالسلم الأهلي، في لحظة إدراك بأن أخطر ما يمكن أن يصيب البلد هو أن تفقد آخر مؤسساته الوطنية شرعيتها. لذلك، المعركة هي على حماية فكرة الدولة نفسها من طلاب الدولة. والأسئلة التي ستجيب عنها المرحلة المقبلة: هل الصراع القائم اليوم هو بين «السياديين» وحزب الله، أم بين جوزاف عون ومشروع يريد دولة تُدار من الخارج ولو أدّى ذلك إلى إسقاط عهد عون إن لم يُطوَّع؟
وكتبت" الجمهورية": بقيت فضيحة «بخّ السمّ» التي كشفها رئيس الجمهورية بندًا أساسيًا في مداولات المجالس والصالونات السياسية. وعلى الرغم من أنّ أسماء مجموعة بخّاخي السمّ وانتماءاتهم السياسية والحزبية و«السيادية» معروفة، تحديدًا لدى المستهدفين ببخّ السموم، إلا أنّ هذا الأمر، كما يقول مسؤول كبير لن يطول الوقت حتى يذوب الثلج ويبان المرج، والأسماء تظهر وحدها إلى العلن. فطابخ السمّ آكله في نهاية المطاف، ولقد بدأوا منذ الآن ببخّ السمّ على بعضهم البعض، ويرسلون إشارات ينفون علاقتهم بهذا البخّ.
وكما هو معلوم، فإنّ رئيس الجمهورية طاله جانب كبير من هذا البخّ، وكذلك الجيش اللبناني وقيادته، وأيضًا الرئيس نبيه بري، الذي تؤكّد أجواء عين التينة أنّ شخصية لبنانية اسمها (ج.ج.) موجودة في
الولايات المتحدة الأميركية، مكلّفة منذ مدة من قِبل أحد الأحزاب التي ترفع شعار السيادة والاستقلال للقيام بعملية تحريض مع
الأميركيين لفرض عقوبات على الرئيس بري. وبحسب أجواء نيابية موازية، فإنّ الشركاء في عملية البخّ يتوزعون بين فصائل سيادية وتغييرية، وبين ناشطين موظفين بالأجرة، ومعهم من يسمّون أنفسهم «أصحاب إرادة»، ومعهم أيضًا كل ركاب بوسطة أحد النواب إلى الغداوات والعشاوات في لبنان وأميركا.
وسألت «الجمهورية» الرئيس بري رأيه في استهدافه من قِبل بعض الجهات ببخّ السمّ والتحريض على فرض عقوبات أميركية عليه، فاكتفى بالقول ساخرًا: «مش عام نام الليل!» في جانب سياسي آخر، فإنّ المشهد اللبناني مفتوح في هذه المرحلة على حراكات خارجية مكثفة.