لو عاد اللبنانيون بالزمن إلى الوراء، ولو لسنوات خلت، لاكتشفوا بأن ما يُقال اليوم، وعلى لسان كبار المسؤولين، كان يُعتبر بمثابة "خيانة عظمى". لم يكن أحد يجرؤ على الحديث عن أي نوع أو بأي شكل من الأشكال عن تفاوض مباشر أو غير مباشر مع إسرائيل إلى أن جاء آموس هوكشتاين وفتح باب التفاوض واسعًا أمام عبور لبنان جسر التفاوض غير المباشر مع العدو توصلًا إلى ترسيم الحدود البحرية بينهما. فبعد هذه الخطوة، التي كان عرّابها الرئيس بري ، تكرّرت المفاوضات غير المباشرة أيضًا مع الإسرائيليين، والتي أفضت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، الذي لم يتوقّف من الجانب الإسرائيلي . وفي هذه المفاوضات كان الرئيس بري رأس حربة.
أمّا وبعد هاتين التجربتين فقد أصبح الحديث عن التفاوض مع العدو أمرًا غير مستغرب، ولا يُواجه بتهم "التعامل" أو "الخيانة"، وإن كان البعض يرفض هذه المعادلة كتعبير عن موقف سياسي محدّد. وهذا ما خلص إليه الرئيس بري بعد آخر زيارة له للقصر
الجمهوري على أثر إعلان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل. وعاد وكرّر موقفه أمام زواره، أن لا خيار أمام لبنان سوى التفاوض.
ويضاف إلى موقف الرئيس بري، الذي عاد وأكد تمسكّه بآلية عمل لجنة "الميكانيزم"، موقف جديد – قديم لـ "
حزب الله " نسف فيه أي إمكانية لأي تفاهم لبناني – لبناني على التفاوض مع عدو لا يقيم وزنًا لأي اتفاق سياسي أو أمني، وأعلن أنه "بصفتنا مكون مؤسس للبنان الذي التزمناه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، نؤكد حقنا المشروع في مقاومة الاحتلال والعدوان والوقوف إلى جانب جيشنا وشعبنا لحماية سيادة بلدنا، ولا يندرج الدفاع المشروع تحت عنوان قرار السلم أو قرار الحرب، بل نمارس حقنا في الدفاع ضد عدو يفرض الحرب على بلدنا ولا يوقف اعتداءاته بل يريد إخضاع دولتنا".
وبعدما كرّر وصف قرار الحكومة بـ "حصرية السلاح" بأنه "خطيئة" و"متسرع"، أكد "أن موضوع حصرية السلاح لا يبحث استجابة لطلب أجنبي أو ابتزاز إسرائيلي وإنما يناقش في إطار وطني يتم التوافق فيه على استراتيجية شاملة للأمن والدفاع وحماية السيادة الوطنية". وأعلن معارضته "التورط والانزلاق إلى أفخاخ تفاوضية مطروحة، ففي ذلك المزيد من المكتسبات لمصلحة العدو الإسرائيلي الذي يأخذ دائماً ولا يلتزم بما عليه، بل لا يعطي شيئاً. ومع هذا العدو المتوحش والمدعوم من الطاغوت الأميركي لا تستقيم معه مناورة أو تشاطر. إن لبنان معني راهناً بوقف العدوان بموجب نص إعلان وقف النار والضغط على العدو الصهيوني للالتزام بتنفيذه، وليس معنياً على الإطلاق بالخضوع للابتزاز العدواني والاستدارج نحو تفاوض سياسي مع العدو الصهيوني على الإطلاق، فذلك ما لا مصلحة وطنية فيه وينطوي على مخاطر وجودية تهدد الكيان اللبناني وسيادته".
فهذا الموقف لـ "حزب الله" قد أعاد عقارب الساعة إلى ما قبل 24 تشرين الثاني الماضي، أي إلى ما قبل سنة من الآن، وفتح باب الاجتهاد على مصرعيه أمام رجحان دفّة الحرب، التي تحاول إسرائيل جرّ لبنان إليها بكل الوسائل الممكنة، وهي ستلجأ حتمًا إلى استثمار موقف "حزب الله" لتنفيذ ما كانت تخطّط له حتى وهي توافق على وقف إطلاق النار.
أما بالنسبة إلى الرئيس عون، وفمن خلال موقعه كرئيسٍ للجمهورية وقائدٍ سابقٍ للجيش، فهو أنّ التفاوض ليس تراجعًا ولا تنازلاً، بل هو سبيلٌ لإنقاذ الدولة من الانهيار الكامل. ففي ظلّ هشاشة الوضع الداخلي وغياب الإجماع الوطني حول الخيارات المصيرية، يصبح التفاوض هو الوسيلة الوحيدة لتثبيت الاستقرار وصون السيادة.
فتكرار هذا الموقف من قِبل رئيس الجمهورية لم يأتِ في فراغ، بل في سياقٍ تتكاثر فيه التهديدات
الإسرائيلية بقصف
بيروت ، وتتصاعد لغة التصعيد في المنطقة. ومع ذلك، يصرّ الرئيس عون على أن لبنان لا يُقاد إلى الحرب بقرارٍ خارجي ولا يُستدرج إليها بتهوّرٍ داخلي. فالتفاوض، وفق رؤيته، هو سلاح الشرعية والعقل، لا سلاح الضعفاء. وهو أيضًا الرسالة الأوضح للمجتمع الدولي بأنّ لبنان يريد أن يعيش بسلام، لكن من موقع السيادة والكرامة لا التبعية.
ويحمل هذا الموقف بعدًا مؤسسيًا مهمًا. فحين يتكلّم رئيس الجمهورية بهذه النبرة، فهو يُعيد الاعتبار إلى دور الدولة كمرجعيةٍ وحيدةٍ في قرارات السلم والحرب. وهو يذكّر بأنّ جيش لبنان، الذي طالما حمى الحدود بدمائه، ليس جيش مغامرات، بل جيش دولةٍ تزن خطواتها بميزان المصلحة الوطنية. وما الخطوة التي أقدم عليها حين أعطى تعليماته لقائد الجيش بضرورة تصدّي الجيش لأي اعتداء إسرائيلي على غرار ما حصل في بلدية بليدا يصبّ في إطار التعاطي مع الوقائع بحكمة وجرأة وحزم، سواء أكان من حيث تثبيت الموقف اللبناني الصلب في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، أو من خلال التفاوض ليس من باب ما تراكم من عقد نقص متوارثة، بل من موقع الواثق بحق لبنان بأن ينعم بالسلام الدائم والعادل.
لا شك في أن اللبنانيين يختلفون في مقارباتهم السياسية وخياراتهم الاستراتيجية، وهذا ما بيّنه بيان "حزب الله"، ولكنّ لا أحد يستطيع إنكار أن الرئيس عون قد أعاد إلى الخطاب الرسمي لغة العقل والهدوء والمسؤولية. فلبنان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى قادةٍ يعرفون متى يصمت المدفع ومتى يتكلم العقل. والتفاوض، كما يراه رئيس الجمهورية، ليس خيارًا تكتيكيًا، بل خيار وجودي يحفظ لبنان الدولة والإنسان.