كتب طوني عيسى في" الجمهورية": خرج
الجيش اللبناني من المربّع شبه المحايد، ومن المهمّة التي يتفّرغ لها منذ أشهر، أي مصادرة ترسانة "
حزب الله " وتدميرها، وكلّفه رئيس الجمهورية أن يتصدى لأي توغّل إسرائيلي في المناطق المحرّرة. طبعاً، الرئيس هو القائد الأعلى للجيش أي أنّ له، بالصفة العسكرية، صلاحية إعطاء المؤسسة أوامر للتنفيذ. ولكنالتغطية السياسية الرسمية للقرار يجب أن توفرها السلطة السياسية الكاملة أي
مجلس الوزراء مجتمعاً. وحتى الآن، لم يصدر عنه قرار في هذا الشأن.
ولكن، بمعزل عن هذا الجدل الدستوري، إنّ هذا القرار هو عبوة ناسفة سياسية فجّرها عون في وجه المعادلات القائمة، إذ حوّل الجيش من مُنفّذ مطيع لأجندة"الميكانيزم" إلى خط دفاع عسكري أول على أرض الجنوب (التي ما زالت محررة). وفي الواقع، هو يسحب ورقة "
المقاومة " من الاحتكار، ويمنح الدولة هامشاً سيادياً جديداً. ولاحقاً، يمكن استثمار هذا الهامش في مسألة التفاوض مع
إسرائيل .
قرار عون يُزيل عن القيادة الرسمية، السياسية والعسكرية، تهمة "التخاذل" أو "التواطؤ" مع الأجندة
الإسرائيلية أو الأميركية، كما يقول "حزب الله"، ويجعل الجيش "مقاوماً" على الأرض. أي، يكسر احتكار سردية "الحزب" بأنّه هو وحده المقاومة. وفي عبارة أخرى، هو إعلان رسمي عن "تأميم المقاومة"، وهو يسحب الركيزة الأبرز في خطاب "حزب الله"، أي أنّه درع الدفاع الأول في وجه إسرائيل. لكن الأهم هو أنّ القرار يوسع هامش المناورة السياسية والديبلوماسية المتاحة أمام الدولة، فهو ينزع فتيل المزايدة الداخلية من أمامها، إذا قرّرت الانتقال إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، تحت الضغط الأميركي، سواء بتوسيع إطار "الميكانيزم" أو بأي صيغة أخرى مباشرة. ف "الثنائي الشيعي » سيجد نفسه في مأزق أخلاقي وسياسي، إذا قرر تخوينها، فيما جيشها علىالأرض يتكفّل بمهمّة التصدّي بالحديد والنار للقوات الإسرائيلية، مقابل امتناع "الحزب" عن القيام بذلك لأسباب كثيرة؟ وفي الواقع، سيتيح هذا الأمر لرئيس الجمهورية أن يقول: "المقاومة المسلحة لا تنفي اعتماد الديبلوماسية لحماية الناس من الموت والأرض من الضياع".
إنّ قرار تكليف الجيش التصدّي لأي توغل إسرائيلي، أياً كانتإمكانات تطبيقه على الأرض، حوّل المشكلة الداخلية (نزاع الجيش" – الحزب" على دور المقاومة) أداة ضغط على الجهاتكافة، لتوسيع صلاحيات الدولة وتقويتها، أي تأميم السيادة ومنحها حصرية التفاوض، استتباعاً لحصرية السلاح. وعلى الأرجح، قرار عون هو مناورة استراتيجية بعيدة المدى، ستنهي فكرة أنّ المقاومة هي "ملكية خاصة" ممنوع على الدولة أنتقاربها. كما أنّ هذه الدولة، ك "قوة مقاتلة"، ستصبح كلمتها مسموعة خارجياً، وليست مجرد "ضحية" أو "طرف متخاذل"، مايُمهّد الطريق لتصبح الدولة هي العنوان الوحيد في التعاطي مع إسرائيل في المرحلة المقبلة، سواء في اختصاص المواجهة العسكرية أو في اختصاص المفاوضة السياسية. وهذا هو الهدف الأعمق الذي ستتضح أبعاده يوماً بعد يوم. طبعاً، هذا يخالف القراءة السريعة التي أجراها البعض، وجاءت سلبية، إذ وجدت أنّ الجيش انزلق إلى فخّ يريده "حزب الله". وسيتبين تباعاً أنّ قرار"توريط" الجيش في قتال إسرائيل هو جزء من الآليات التي سيتحرك الوضع اللبناني في اتجاهها، خلال المرحلة المقبلة، تبعاً لما سينحو إليه مسار التحولات في
الشرق الأوسط ككل، من
لبنان إلى
سوريا إلى غزة والضفة الغربية. ففي كل هذه الجبهات، يعمل الأميركيون لحصر المفاوضات مع الدولة لا مع الجماعات، ويقولون: في شأن لبنان، نعترف بمفاوضات بين طرفين هما دولة لبنان ودولة إسرائيل. لكن "الحزب" يقارب المسألة من زاوية أخرى: نريد أن تذوب الدولة وتضمحل لمصلحتنا، فنصبح نحن الدولة الحقيقية، والمفاوضين الحقيقيين. وأما إسرائيل فلا رغبة لديها على الأرجح في مفاوضة أي طرف على أي شيء، ما دامت لها السيطرةالمطلقة على كل الاطراف وكل شيء.
إذاً، أطراف عدة يجلسون على ضفة النهر. إنّه الليطاني، بضفافه الأطول على امتداد العمق اللبناني، من الشرق في جوار سوريا،إلى الجنوب في جوار إسرائيل، وعلى امتداد كل مقاطعات الحروب وخطوط التماس النائمة بين الميليشيات والطوائف والمذاهب. وعلى كل منعطف من النهر، واحد أو أكثر، ينتظر جثة أو أكثر. ولا حاجة هنا إلى تحليل "ميكانيزم" الانتظار وهويات المنتظرين والجثث. فالاتجاه واضح لمَن يريد أن يعرف ويعترف.