ليـس سرًا أنّ وتيرة الخروقات الإسرائيلية لِاتفاق وقف إطلاق النار ارتفعت إلى مستوى ربما يكون غير مسبوق منذ سريان التهدئة في غزة، وليس سرًا أيضًا أنّ الحديث يتصاعد منذ ذلك الوقت عن احتمال الانزلاق مجدّدًا إلى مواجهة واسعة، تتفاوت التقديرات حول مدى "رغبة" إسرائيل بها. إلا أنّ ذلك كلّه لا يجعل الجريمة التي وقعت في بلدة بليدا، عبر التوغّل فيها وتنفيذ عملية إعدامٍ ميداني، أمرًا عاديًا يمكن أن يمرّ وسط زحمة "الجنون" الإسرائيلي .
 
      
    فهذه الجريمة لا يمكن أن تصنَّف ضمن الخروق "العابرة"، ولا حتى "الروتينية" لاتفاق وقف إطلاق النار، إذ إنّها تعبّر عن تحوّل يوحي وكأنّ إسرائيل تتعمّد استفزاز اللبنانيين، فهي حين تتفنّن في ابتكار أنواع مختلفة وجديدة من الخروقات، بعد يوم واحد على زيارة المبعوثة الأميركية 
   
مورغان أورتاغوس ، ومع الحديث عن حراك 
   
مصري دخل على الخط، تبدو كأنّها تختبر عمدًا حدود التهدئة وتدفع بها إلى نقطة اللاعودة. 
    
   
 ولأنّ المشهد برمّته بدا استعراضًا لقدرة الحركة داخل عمقٍ مدني حساس، كان طبيعيًا أن يفجّر صدمة شعبية ورسميّة على السواء، ويرفع منسوب التوتّر جنوبًا إلى الذروة. وقد تجلّى ذلك أساسًا في موقف رئيس الجمهورية جوزاف عون الذي دعا الجيش إلى التصدّي لأي توغّل إسرائيلي داخل الأراضي الجنوبية. هنا يبرز السؤال: هل دخلنا عمليًا مرحلة "قرع طبول الحرب"، أم أنّ جريمة بليدا ستكون مجرّد جولةٍ من خروقاتٍ إسرائيلية لا تنتهي؟ 
    
    
   
"رسائل" جريمة بليدا ودلالاتها
  
    بدت صادمة الجريمة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في بلدة بليدا الجنوبية، ليس فقط لأنّها جاءت بعد نحو عام على اتفاق وقف إطلاق النار، وهو عام بقيت الخروقات فيه محصورة في الأغلب بالغارات والقصف والطلعات الجوية، ولكن أيضًا لأنّها كسرت "محظور" العمق المدني، إن صحّ التعبير، من خلال دخول قوة إسرائيلية إلى مبنى مأهول، ثمّ قتل موظف أثناء نومه، ما يُخرج الواقعة من أي تأويل ويضعها في خانة السلوك الهجومي المعلن. 
    
   
 وإذا كان نمط التوغّل الميداني داخل البلدة وتنفيذ عملية القتل في مبنى رسمي يوحي بأنّ إسرائيل تسعى إلى تظهير قدرة على الحركة داخل العمق الحدودي، "كيفما يحلو لها"، ومن دون رادع، وبالتالي تحطيم سقف الردع النفسي قبل العسكري، فإنّ الرسائل الكامنة خلفه تتجاوز " 
   
حزب الله "، لتطال الدولة 
   
اللبنانية مباشرة، وهو ما فُهِم أيضًا من 
   
الغارات التي شنّتها بالتزامن على محيط بلدة العيشية في 
   
جنوب لبنان ، وهي مسقط رأس رئيس الجمهورية. 
    
   
 ولا يُستبعَد أن تكون الرسالة الإسرائيلية خلف هذا التصعيد "النوعي" موجّهة أيضًا إلى الوساطات القائمة، أو المستجدّة. فالسلوك الذي أقدمت عليه 
   
تل أبيب يتعارض مع روح الترتيبات التي سعت إليها لجنة الإشراف على وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم) التي عقدت اجتماعها هذا الأسبوع بحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس، وخرجت بأجواء إيجابية يُخشى أن يقوّضها التصعيد، ويطيح أيّ فرصة لإنعاشها. 
    
    
   
بين الحرب الحتميّة والتصعيد المحكوم
  
    صحيح أنّ الخرق الإسرائيلي في بليدا لم يكن الأول من نوعه، إلا أنّه في الشكل أحدث صدمةً فورية انعكست في المواقف وردود الفعل، وأبرزها موقف رئيس الجمهورية الذي دعا علنًا الجيش إلى التصدّي لأيّ توغّل إسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما يعني عمليًا رفع هامش قرار الوحدات المنتشرة جنوبيًّا للمنع الميداني ومنع تكرار سيناريو بليدا في الجنوب، وقد عُدّ تحوّلاً في النبرة الرسمية، وقوبل بترحيب لافت من جانب "حزب الله". 
    
   
 وبمعزل عن مدى قابلية تطبيق هذا القرار، في ظلّ غياب التكافؤ بين الجانبين، فإنّ أهمية موقف الرئيس تكمن في أنّه يضع مظلّة سياسية واضحة لإجراءاتٍ دفاعية أشدّ صرامة في مواجهة التمادي الإسرائيلي. ولعلّ هذا بالتحديد ما دفع "حزب الله" إلى الترحيب به، بوصفه تقاطعًا ظرفيًا على حماية الخطوط داخل العمق اللبناني، علمًا أن الترجمة جاءت سريعة بتعزيز حضور الجيش وإجراءاته الوقائية في محيط البلدات الحدودية، بما يرفع كلفة أيّ محاولة توغّل لاحقة. 
    
   
 بالتوازي، كان لافتًا "قرع طبول الحرب" إن صحّ التعبير، إسرائيليًا، فقد حفلت الساعات الماضية بتسريباتٍ نقلها الإعلام الإسرائيلي حول اقتراب لحظة الانفجار، وتوّجت بمعلومات عن رسائل أبلغت لواشنطن حول زيادة وتيرة الضربات ضد 
   
لبنان . وتُقرَأ هذه الإشارات كرفعٍ مدروس للسقف ضمن ما يمكن تسميته "التصعيد المحكوم". فإسرائيل برأي الكثيرين لا مصلحة لها في الحرب طالما أنّها تفعل ما تريد، لكنّها تضغط لتحصيل مكاسب سياسية وميدانية، بدليل حرصها على إبقاء قنوات الوساطة مفتوحة لاحتواء الانزلاق، إذا وقع. 
    
   
 لكن في المقابل، لا يمكن استبعاد اتّساع رقعة الاشتباك إذا تكرّر نمط بليدا أو وقع خطأ تقديري كبير، خصوصًا مع استمرار الرسائل الإسرائيلية حول توسيع بنك الأهداف و"زيادة الوتيرة". في هذه الحالة، تصبح احتمالات "التصعيد المحكوم" هشّة، ويصبح أي حادث منفلت قادرًا على دفع المشهد إلى ما بعد الضوابط غير المعلنة. لذلك تبقى الاختبارات اليومية هي المؤشّر الأدق: هل تُضبط الحدود بكلفة أعلى على المُعتدي، أم يُعاد إنتاج خروقٍ نوعية تُبدّد ما تبقّى من التهدئة؟ 
    
    
   
خلاصة الصورة أن جريمة بليدا ليست تفصيلًا في سجل الخروقات. إمّا تُقابل بمنعٍ ميداني واضح يعيد تعريف الخطوط داخل القرى، وإمّا تُرسِّخ سابقة توغّلٍ تُعاد وتُكرَّر. وبين هذين الخيارين، تبدو "طبول الحرب" أعلى صوتًا من قرارها النهائي اليوم؛ غير أنّ طريقة تعاطي الدولة والوسطاء في الساعات والأيام المقبلة ستحدّد ما إذا كانت الجريمة ستبقى حادثة صادمة تُشدّد الضوابط، أم تتحوّل إلى عنوان مرحلة تُدار فيها الحدود بالرسائل الخشنة لا بالتفاهمات.