كثيرة هي المؤشرات التي تؤكد ان الحرب كما عرفتها المنطقة في السنوات الماضية انتهت فعليًا. ولعل اتفاق غزة خير دليل على الارادة الاميركية التي تتجه لفرض انتهاء الاشتباك الكبير بشكله القديم.
السبب الأول لهذا التحول يعود إلى
الولايات المتحدة الأميركية التي تدرك أن أي انخراط اضافي في المنطقة سيساهم في إضعاف موقعها العالمي. فالحرب ليست فقط استنزافًا عسكريًا، بل أيضًا نزيف اقتصادي وسياسي في آن واحد.
واشنطن تعلم أن أي محاولة لتغيير التوازن في
الشرق الأوسط ستفتح الباب أمام
الصين لتتقدم اقتصاديًا وربما عسكريًا في الفراغ الذي تتركه أميركا. والأسوأ بالنسبة لها أن صورتها في المنطقة تتراجع؛ شعوب الشرق الأوسط لم تعد تنظر إليها كقوة
حامية أو حليفة، بل كدولة تستغل أزمات الآخرين وتغذي الصراعات من بعيد.
أما السبب الثاني، فهو حالة الإرهاق الواضحة في الجيش
الإسرائيلي . فعلى الرغم من تفوقه الأمني والتكنولوجي، إلا أن سنوات المواجهة جعلت من الصعب عليه خوض حرب شاملة جديدة. الكلفة البشرية والمادية لأي حرب مقبلة ستكون مرتفعة إلى درجة قد تُفقده ما حققه من إنجازات ميدانية في السنتين الماضيتين. الجيش الذي اعتاد على المبادرة بات يجب ان يكون اكثر حذرا لأن أي خطأ في الحسابات قد ينعكس على الداخل الإسرائيلي، سواء على المستوى السياسي أو الشعبي.
السبب الثالث يرتبط بتغير النظرة الأميركية لمسار الأحداث في المنطقة. فهناك قناعة متزايدة بأن السياسة، تستطيع ان تصنع النتائج الفعلية بعد التحول العسكري. التجربة أثبتت أن الضربات العسكرية في
سوريا ولبنان وغزة وإيران لم تحسم بشكل كامل، بينما المفاوضات والضغوط السياسية قد تحقق مكاسب أكثر ثباتًا. لذلك، تسعى واشنطن إلى الحفاظ على مستوى من التوتر يسمح لها بالبقاء مؤثرة، من دون أن تنزلق إلى حرب شاملة تستنزفها من جديد.
بناءً على ذلك، يبدو أن المرحلة المقبلة لن تكون مرحلة عودة للحرب الكبرى، بل فترة من التصعيد المحسوب والضربات تحت سقف الإنزلاق. إنها حرب باردة جديدة ولكن بأدوات مختلفة: طائرات مسيّرة، حصار اقتصادي، وتلاعب إعلامي..