برعاية وحضور وزير العدل عادل نصار، أطلقت جامعة الحكمة – العيادة القانونية في كلية الحقوق، بالتعاون مع مؤسسة نواة للمبادرات القانونية (Seeds for Legal Initiatives) والدكتورة كارمن أبو جودة، وبالشراكة مع هيئة
الأمم المتحدة للمرأة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في
لبنان ، ودعم من حكومة كندا، الوحدة السابعة من الدورة التعليمية المفتوحة عن بعد حول قضية "التعامل مع الماضي: المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان من منظور جندري"، . وتركز هذه الوحدة الجديدة على التأثيرات النفسية والقانونية والاجتماعية التي تواجه النساء بعد فقدان أحد أفراد العائلة (زوج، ابن، أب، شقيق)، في إطار السعي لتعزيز العدالة الترميمية وبناء ذاكرة جماعية قائمة على حقوق الإنسان.
جاء ذلك في "بيت
بيروت "– السوديكو بحضور السفير الكندي في لبنان جريج غاليغان، عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة الدكتور شادي سعد، ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان جيلان المسيري، الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان بليرتا أليكو، ورئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان وداد حلواني، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة نواة للمبادرات القانونية (Seeds for Legal Initiatives) المحامية ليال صقر، مسؤولة حقوق الإنسان في مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في لبنان لين عيد، أستاذة القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة الحكمة وعضو الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا رينا صفير، وحشد من المعنيين وطلاب الحقوق
في الجامعة .
نصار: واجبنا أن نبحث ونعترف ونسمي
إستهل حفل الإطلاق بكلمة وزير العدل عادل نصار الذي لفت إلى أن اللقاء في هذا المكان المليء بالذكريات يشكل مناسبة لتذكّر سبعة عشر ألف مفقود في لبنان، وقضية هؤلاء ليست مسألة قانون أو سياسة فقط، بل هي قضيّة إنسانيّة ووطنية، تتعلّق بالحقّ في المعرفة وبكرامة الإنسان. وذكّر أنه في عام 2018، وبعد نضالٍ طويل استمرّ أكثر من أربعين سنة، قادته المرأة اللبنانيّة بإيمانٍ وصبرٍ كبيرين، صدر القانون رقم 105 المتعلّق بالمفقودين والمخفيّين قسرًا. وتابع الوزير ناصر أن النساء، من الأمهات والأخوات، وبعضهنّ بيننا اليوم، حافظن على ذاكرة الوطن من النسيان، ودافعن عن حقّ كلّ عائلة في معرفة مصير أحبّائها.
وأشار وزير العدل إلى أن هذا القانون أنشأ هيئة وطنيّة مستقلّة، كلّفت بالبحث عن المفقودين، وتحديد مصائرهم، وإعادة الأسماء إلى الوجوه التي غيّبتها الحرب. وأوضح أنه لم يعتبر، بعد انتهاء ولاية الهيئة الأولى، أن إعادة تشكيلها مجرّد إجراء إداري، بل إنه واجب وطني وإنساني، مضيفا أنه حرص على أن تكون المرأة ممثَّلة بشكلٍ عادل، لأنّ السعي إلى الحقيقة ليس خيارًا، بل هو رسالة ومسؤولية.
وشدد الوزير نصار على أن الحقيقة ليست مفهومًا مجرّدًا، بل حقّ أساسيّ للعائلات، وشرط لأيّ مصالحة حقيقيّة ودائمة. وتابع أنه من هذا المنطلق، تعمل وزارة العدل على تعزيز التعاون بين الهيئة الوطنية والقضاء، وعلى إدماج قضايا العدالة الانتقالية في التعليم والبحث والتدريب، لأنّ الذاكرة لا تكفي وحدها — يجب أن تتحوّل إلى فعلٍ ومعرفةٍ تحمي من التكرار.
واستذكر وزير العدل عبارة سيمون فيل: "لا أحبّ عبارة واجب الذّاكرة؛ فالواجب الحقيقيّ هو التعليم ونقل الوعي." وتابع أنه انطلاقًا من هذا الفكر يأتي المشروع الذي يتم إطلاقه اليوم، خاصة القسم المخصّص لمقاربة قضيّة المفقودين من منظور النوع الاجتماعي، ليؤكّد أنّ التعليم ونقل الوعي هما الطريق نحو العدالة ومنع التكرار. فالعدالة لا تتحقّق فقط في المحاكم، بل أيضًا من خلال المعرفة، والاحترام، والعمل المشترك. وعبر هذا التعاون بين الجامعة، والمنظمات الشريكة، والوزارة، يتم تأكيد الإيمان بعدالةٍ تجمع لا تُفرّق، وبدولةٍ تُصغي لا تتجاهل، وبحقٍّ يُداوي الجراح بدل أن يُعيد فتحها.
وإذ شكر القيمين على البرنامج، أكد الوزير نصار أن الحقّ في المعرفة ليس ترفًا ولا منّةً من أحد، بل هو أساس العدالة ومصدر قوتها. وطالما هناك إنسان واحد في لبنان لا يعرف مصير قريبه، تبقى الدولة مسؤولة، ولا تُسدّد هذا الدَّين إلا بالبحث، والشفافية، والاعتراف. فالأوطان لا تُبنى على النسيان، بل على الوعي والضمير. والعدالة، عندما تواجه الماضي بشجاعة، لا تضعف، بل تتقدّم وتتعافى.
وأردف وزير العدل عادل نصار أنه لهذا السبب بالذات، أعاد إلى
القضاء ملفّات الاغتيالات السياسية التي بقيت سنوات طويلة في الأدراج، لأن العدالة لا تكتمل إلا بمصارحة التاريخ. وقال إن مواجهة هذه
القضايا ليست عودة إلى الماضي، بل خطوة ضرورية لترسيخ الثقة بالقضاء، وتأكيد أن لا أحد فوق المساءلة، وأن العدالة لا تسقط بالتقادم ولا بالصمت. كما كتب غابرييل غارسيا ماركيز: "التذكّر سهلٌ على من يملك ذاكرة، لكنّ النسيان صعبٌ على من يملك قلبًا." وفي قلب الوطن، حيث تنبض إنسانيّتنا، يعيش المفقودون. ما دمنا نذكرهم، فهم لا يغيبون. إنّ واجبنا أن نبحث، ونعترف، ونسمي، لنجعل من لبنان وطنًا يتذكّر ليتقدّم، ويواجه ماضيه ليكون له مستقبل.
العميد سعد: مستعدون لتأسيس وحدة وساطة متخصصة تسهم في معالجة ملف المفقودين
ثم كانت كلمة عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة العميد شادي سعد الذي أوضح أن إطلاق وحدة جديدة من البرنامج التدريبي عبر الانترنت حول حالات الاختفاء القسري، تهدف للتأكيد أن العدالة لا تبنى بالنسيان، بل بالمصالحة مع الذاكرة. وأوضح أن هذا البرنامج أطلق في كلية الحقوق في جامعة الحكمة عام 2022، في تجربة رائدة في لبنان والعالم العربي، اذ كان الاول من نوعه باللغة العربية. وشارك فيه خلال ثلاث سنوات اكثر من ستمائة طالب وطالبة، واصبح اليوم جزءا اساسيا من منهاج مادة حقوق الانسان في السنة الرابعة. وتابع العميد سعد مضيفا أن هذه الوحدة الجديدة من البرنامج تضيء على دور
النساء في النضال
الطويل من اجل الحقيقة. النساء اللواتي كن، في قلب الالم، حارسات الذاكرة وحاملات راية العدالة. من دموعهن واصرارهن ولد القانون رقم 105/2018، فكان ثمرة نضال وصبر وامل لم ينكسر. ولا بد هنا من قول صريح وواضح: صحيح ان هناك دولا ومنظمات مسلحة خارجية تتحمل الجزء الاكبر من هذه المأساة، وصحيح انه علينا اليوم ان نستفيد من التبدلات الكبرى التي تحصل في المنطقة لفك الغاز هذا الملف، لكن لا يجوز ان نستمر، كلبنانيين، في القاء اللوم فقط ودائما على «الاخرين» وحدهم، ونحيد انفسنا. اذا حولنا الحرب الى «حرب الاخرين» على ارضنا، والخطف الى «خطف الاخرين» لابنائنا، والاختفاء القسري الى «اخفاء الاخرين» لشبابنا، فاننا نتهرب من مسؤولياتنا المشتركة. علينا ان نعترف بان جانبا مما جرى اسهمنا فيه نحن ايضا، وان كان دور الخارج كبيرا جدا. ومن هذا الاعتراف تبدأ المعالجة الحقيقية. الهدف ليس المحاسبة بعد عقود بروح الانتقام، بل اظهار الحقيقة. فالحقيقة هي اولى خطوات الشفاء.
وتابع عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة أن كل الجماعات
اللبنانية شاركت في الحرب، وكل منها دافع عن قضاياه التي يعتبرها محقة من وجهة نظره. ولكن لم ينتصر احد، ولن ينتصر في نهاية المطاف الا لبنان التعددي. المطلوب تنقية الذاكرة، وفصل موضوع المخفيين قسرا عن حقيقة الحرب، وعن اسبابها ونتائجها، لتظهر الحقيقة من دون تحميل مسؤوليات سياسية آنية.
وأبدى العميد سعد إستعداد كلية الحقوق في جامعة الحكمة لتأسيس وحدة وساطة متخصصة تساهم في معالجة هذا الملف الحساس، في حال رغبت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا اعتماد هذا الخيار. وأعلن أن الكلية تتشرف بتعيين عضوين منها في صفوف الهيئة: القاضي الرئيس جوزيف سماحة، والاستاذة رينا صفير مديرة العيادة القانونية والمشرفة منذ العام 2022 على هذا البرنامج. وختم مؤكدا التزام جامعة الحكمة التي حملت مشعل العدالة والقضايا الانسانية لاكثر من قرن ونصف، بتوجيهات من ابرشية بيروت للموارنة، بمواصلة هذه الرسالة، بضمير وصدق ومسؤولية.
المسيري لإعادة كتابة الذاكرة الجماعية بما يتيح للشباب أداة للتفكير والحوار
وفي كلمتها أكدت ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان جيلان المسيري أن إطلاق هذه الحصص يأتي كعمل تراكمي يُبنى على الجهود التي بدأت مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، وكمبادرة رائدة لبناء معرفة مؤسسية ومنهجية حول قضية لم تُحل بعد. أضافت أن الحصص الجديدة لا تتناول القضية من منظور قانوني أو حقوقي أو اجتماعي فحسب، بل تضع النساء وتجاربهنّ في صميم السردية الوطنية، بما يسهم في إعادة كتابة الذاكرة الجماعية بصورة أكثر عدلا وشمولية، ويتيح للأجيال الجديدة أداة للتفكير والحوار حول الماضي والمسؤولية المشتركة في فهمه ونقله.
ولفتت المسيري إلى أن هيئة الأمم المتحدة للمرأة دعمت هذا الجهد من خلال الأبحاث والتوثيق والحوار مع العائلات والمنظمات المحلية، بالشراكة مع المؤسسات الوطنية، وفي مقدمها الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا، من ضمن التزام أوسع بتعزيز العدالة الجندرية والسلام المستدام. وأكدت أنها خطوة مبتكرة تتيح للجميع، طلابًا وأكاديميين وناشطين وعائلات، الإنخراط في نقاش وطني طال انتظاره حول الذاكرة والعدالة. وشددت على أن السلام المستدام لا يمكن أن يتحقق في لبنان من دون الحقيقة والمساءلة والعدالة الجندرية وهيئة الأمم المتحدة للمرأة ملتزمة دعم الجهود الوطنية والشراكات المستمرة في هذا المسار نحو عدالة لا تنسى أحدًا.
أليكو: جهود المرأة مهّدت للدرب الطويل
بدورها، لفتت الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان بليرتا أليكو إلى أن المرأة في لبنان حملت وزر التحديات الكبيرة التي بدأت عام 75 ولم تنته. فلطالما كانت المرأة في صدارة النقاش كأم وشخص أساسي في العائلة. وقالت أليكو إن الوحدة التعليمية الجديدة موضوعة بتصرف الكثيرين من أجل التوعية حول التعامل مع ماضي لبنان وبناء ثقافة من الحقيقة. ووجهت التحية للمرأة اللبنانية التي لعبت دورًا كبيرًا ولا سيما السيدة وداد حلواني التي شكلت جهودها مصدر وحي يسمح بالتمهيد للدرب حتى ولو كان هذا الدرب طويلا.
غاليغان: الإنكار لا يؤدي إلا للمزيد من الجراح
أما السفير الكندي في لبنان جريج غاليغان فتحدث عن تجربة بلاده في المصارحة والمصالحة مع سكان كندا الأصليين. وقال إن العملية لم تكن سهلة إذ يتعرض السكان الأصليون لغاية اليوم لخطر الإخفاء والقتل وتؤكد الإحصائيات أن الدرب لا يزال طويلا لتحقيق المطلوب.
أضاف أن هذا الدرب يبدأ بالحقيقة ويتحقق الشفاء عندما تكون للمجتمع القدرة على المصالحة. فالعدالة لا بد أن تتحقق من خلال الشجاعة والتصميم والإصرار أما الإنكار فلا يؤدي إلا للمزيد من الجراح.
الوحدة التعليمية متاحة للجميع
كانت مديرة البرامج في نواة المبادرات القانونية الصحافية لينا جروس قدمت حفل إطلاق الوحدة التعليمية الجديدة حول "التعامل مع الماضي: المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان من منظور جندري" وأكدت أنه لا يمكن مقاربة الملف من دون التوقّف عند الدور الريادي الذي لعبته ولا تزال تلعبه النساء في هذه القضية كأمهات وزوجات وبنات وناشطات قُدن النضال من الشارع إلى التشريع، وأسّسن لمسارات قانونية وحقوقية ما كانت لتتحقق لولا إصرارهن على كشف الحقيقة وصون الذاكرة. ومن هنا تأتي الوحدة الجديدة لتُسلّط الضوء على القضية من منظور جندري يعترف بهذا الدور ويدعمه.
كذلك قدمت الأستاذة المحاضرة في جامعة القديس يوسف والعضو السابق في الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا الدكتورة كارمن حسون أبو جودة عرضا عامًا حول الوحدة التعليمية الجديدة وقد أوضحت أنه يتضمن جزءين الأول يركز على الأثر النفسي والعاطفي للفقدان والتداعيات المالية والاقتصادية والثاني يتناول نضال النساء لمعرفة مصير المفقودين قسرًا، والذي كان أساسيًا لتشكيل أول آلية للعدالة الإنتقالية وهي الهيئة الوطنية للمفقودين قسرًا. ويمكن للمهتمين تسجيل أسمائهم في البرنامج من خلال الدخول إلى الموقع الإلكتروني للعيادة القانونية في كلية الحقوق في جامعة الحكمة، علمًا بأن الترجمة إلى الإنكليزية متاحة لمن يرغب بالمتابعة بهذه اللغة.
حلواني في جلسة حوارية: الآن وقت تنفيذ القانون 105 لمعرفة مصير المفقودين
ثم كانت جلسة حوارية تضمنت مداخلة لمؤسسة ورئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان وداد حلواني، التي ذكّرت بأن النساء تنادين وتجمعن عام 82 قبل 43 سنة للمطالبة بجلاء مصير المفقودين من أنسبائهن، وكان الخطف لا يزال سائدًا حينها. أضافت أن النساء واجهن جبلا من التحديات والمخاطر وتعرضن لكافة أنواع القمع والإبتزاز المباشر والتعامل الدوني من قبل المسلحين وغالبية المسؤولين الرسميين. ورغم ذلك تمكنّ من تأسيس حركة احتجاجية سلمية ضد الحرب في عز احتدامها، واستمرت بعد الحرب جامعة سيدات من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والإنتماءات الفكرية والسياسية، حتى انتزاع القانون 105/2018 الذي يكرس حق كل عائلة بمعرفة مصير أبنائها. وشددت حلواني على أن الوقت الآن هو وقت تنفيذ هذا القانون.
إضافة إلى حلواني شارك في الجلسة الحوارية تحت عنوان: "الذاكرة، العدالة والمعرفة: بناء مستقبل قائم على حقوق الإنسان في لبنان" أستاذة القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة الحكمة وعضو الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا رينا صفير، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة نواة للمبادرات القانونية (Seeds for Legal Initiatives) المحامية ليال صقر، مسؤولة حقوق الإنسان في مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في لبنان لين عيد. أدارت الجلسة الجلسة منسقة المشاريع في هيئة الأمم المتحدة للمرأة جمانة زبانه.
واتفقت المشاركات في الجلسة على أهمية رفع الوعي حول قضية المفقودين والمختطفين قسرًا بحيث تتعزز الحقيقة ويتم وضع حد لتكرار الحروب على أرض لبنان. كما تم التنويه بأهمية البرنامج الذي يتم تدريسه في جامعة الحكمة والذي يعتبر تجربة رائدة في مجال تعزيز فرص العدالة، من الجدير تسويقها خارج لبنان والتشبيك مع تجارب مماثلة ولا سيما في
سوريا والعراق واليمن وليبيا.