آخر الأخبار

من الحلم التوراتي إلى السياسات الراهنة: إسرائيل الكبرى بين الميثولوجيا والواقع

شارك
كتب أيمن عمر- أكاديمي وباحث اقتصادي وسياسي:
منذ نشأة دولة الكيان الإسرائيلي عام 1948، ظلّ يتردّد في الخطاب الديني – السياسي ما يُعرف بـ"الحلم التوراتي" أو " إسرائيل الكبرى" الممتد من نهر الفرات شرقاً إلى نهر النيل غرباً. هذا الطموح، وإن بدا أسطورياً أو ميثولوجياً في جذوره، لم يبقَ حبيس النصوص الدينية، بل تسلّل تدريجياً إلى أدبيات الحركة الصهيونية، وتحوّل مع مرور الزمن إلى خطاب سياسي وأيديولوجي يُستحضر لتبرير السياسات التوسعية.
الجذور الأيديولوجية والتصريحات المعاصرة
النصوص التوراتية التي تتحدث عن وعد إلهي لبني إسرائيل بأرض "من الفرات إلى النيل" شكّلت خلفية فكرية متكررة في خطاب القادة الإسرائيليين. وفي السنوات الأخيرة، عاد هذا الطرح إلى الواجهة مع تصريحات لرموز سياسية يمينية متطرفة. فقد عرض وزير المالية بيتسليم سموتريتش خارطة تضم الضفة الغربية والأردن باعتبارها "إسرائيل الكبرى"، فيما صرّحت دانييلا وايس أن "الوطن اليهودي يمتد من النيل إلى الفرات". أما بنيامين نتنياهو فاعتبر أن فكرة "إسرائيل الكبرى" ليست مجرد حلم بل "مهمة تاريخية وروحية". هذه التصريحات، وإن لم تتحول إلى سياسة رسمية معلنة، تكشف عن اتجاه فكري حاضر لدى تيار قوي في الحكم، ما يربط الأيديولوجيا الدينية بممارسات الدولة على الأرض.
من الخرائط إلى السياسات
رغم إدراك القادة الإسرائيليين استحالة السيطرة الجغرافية المباشرة على هذا الامتداد الشاسع، إلا أن سياساتها الميدانية تعكس سعياً لتجسيد "روح المشروع". ويتجلى ذلك في ثلاثة مستويات رئيسية:
1. الاستيطان والضم: التوسع في الضفة الغربية، خاصة في القدس والمناطق الحساسة مثل E1، يمثّل شكلاً من أشكال الضم الفعلي الذي يقوّض إمكانية قيام دولة فلسطينية.
2. الهيمنة الأمنية: الغارات المستمرة على سوريا ، وتكريس الاحتلال في الجولان، وربط الأمن الإسرائيلي بالعمق الإقليمي حتى دير الزور والعراق، تعكس رؤية تقوم على السيطرة عبر القوة الجوية والاستخباراتية.
3. النفوذ السياسي – الاقتصادي: عبر التطبيع (اتفاقات أبراهام، التحالفات الاقتصادية الجديدة مع الخليج والهند والولايات المتحدة)، يسعى الكيان الإسرائيلي لتكريس نفسه مركزاً إقليمياً يتحكم بممرات الطاقة والتجارة من الخليج حتى المتوسط.
لبنان وسوريا وغزة: مختبرات المشروع
ما يجري اليوم في المشرق العربي ليس أحداثًا منفصلة، بل حلقات مترابطة في سياق مشروع إسرائيلي طويل الأمد يستند إلى تفكيك المحيط وضبطه بما يخدم فكرة السيطرة الممتدة "من النيل إلى الفرات".
• غزة: التهجير عبر المجازر والمجاعة
منذ حرب أكتوبر 2023 وما تبعها من عدوان مستمر، يعملالكيان الإسرائيلي على تحويل غزة من قضية وطنية إلى عبء إنساني قابل للتفريغ. المجازر المتكررة، الحصار الكامل، واستخدام التجويع كسلاح حرب يهدف إلى دفع السكان نحو سيناريو التهجير الجماعي، سواء باتجاه سيناء أو حلول بديلة في الخارج. هذا السلوك يترجم عمليًا ما كانت تطرحه وثائق إسرائيلية قديمة مثل "خطة غيورا آيلاند" التي تحدثت عن "إفراغ غزة".
• سوريا: التقسيم الناعم وممر السويداء – دير الزور
الأحداث الأخيرة في السويداء، حيث تتنامى نزعات الانفصال والتموضع الطائفي بدعم خارجي، ليست بعيدة عن الاستراتيجية الإسرائيلية . ففكرة تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية – إثنية تصب في جوهر المشروع التوراتي: تفكيك المركز السوري وتحويله إلى فسيفساء هشّة قابلة للضبط. بالتوازي، يستمر الكيان الإسرائيلي في ضرب الممر الإيراني – السوري من البوكمال إلى دمشق، لتفرض عمليًا تحكماً في خط يمتد من الفرات إلى المتوسط.
• الجنوب اللبناني: منطقة ترامب الاقتصادية"
منذ طرح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خطته المسماة "صفقة القرن"، عاد إلى الواجهة مفهوم إنشاء منطقة اقتصادية حدودية في جنوب لبنان، ترتبط بترسيم الحدود البحرية والبرية وبالغاز والنفط. هذه المنطقة، التي يُراد أن تكون عازلة أمنيًا ومفتوحة اقتصاديًا، تعكس محاولة لإعادة تشكيل الجنوب اللبناني ضمن معادلة: أمن للكيان الإسرائيلي مقابل تنمية مشروطة للبنان. التطورات الأخيرة (التهديدات الإسرائيلية بعملية عسكرية واسعة، والوساطات الأميركية والفرنسية) تكشف أن المشروع لم يُدفن، بل يُعاد تسويقه كحل "واقعي" للأزمة، وهو في الجوهر جزء من السياسة الإسرائيلية لتفكيك لبنان إلى مربعات أمنية – اقتصادية. وهذه الخطط ليست سوى ترجمة عملية لما يسميه بعض المفكرين الإسرائيليين "توسيع المجال الحيوي" المتوافق مع الحدود التوراتية.
حدود القوة وإعادة تعريف الحلم
مع ذلك، يظل الكيان الإسرائيلي عاجزا عن تحقيق السيطرة المباشرة على أراضٍ بهذا الحجم. ضعفه الديموغرافي وحدود قدراته العسكرية يحولان دون فرض خارطة "من الفرات إلى النيل" بالمعنى الحرفي، لكنها بالمقابل تعيد صياغة الحلم عبر الهيمنة غير المباشرة:
• تفكيك الدول المحيطة ومنع قيام قوى إقليمية منافسة.
• فرض واقع أمني وعسكري يجعلها القوة الوحيدة القادرة على الضرب في أي مكان.
• بناء تحالفات اقتصادية وتكنولوجية عابرة للمنطقة تعزز حضورها كمركز لا غنى عنه.
الحلم التوراتي، الذي بدا في بداياته أسطورة توراتية، يتحقق اليوم بطرق جديدة: ليس عبر خارطة معلنة تمتد من الفرات إلى النيل، بل عبر شبكة من النفوذ العسكري والأمني والاقتصادي تمتد من غزة ولبنان وسوريا، مروراً بالعراق واليمن، وصولاً إلى شراكات مع الخليج والهند والولايات المتحدة. بهذا المعنى، لا تعيش المنطقة مجرد صراع حدودي مع إسرائيل، بل مواجهة مع مشروع طويل الأمد يسعى إلى إعادة تشكيل المشرق وفق موازين تخدم إسرائيل وحدها.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا