هل كان"
حزب الله " يتوقع كل ما حصل معه وما حلّ ببيئه وقيادته السياسية والعسكرية قبل أن يتخذ قراره الاحادي بفتح الجبهة الجنوبية ضد
إسرائيل في خطوة اعتبرها واجبًا وطنيًا وقوميًا عبر مساندة
المقاومة
الفلسطينية في غزة على أثر عملية "طوفان
الأقصى ، فيما اعتبرها غيره من اللبنانيين مغامرة تشبه مغامرة من قرّر أن يجلب الدب إلى كرمه؟
يقول البعض أنه كان على "حزب الله"، وقبل أن يقدم على هكذا خطوة خطيرة، أن يقرأ ذاك المثل الإنكليزي الذي يقول بأنه يجب ألا تصارع خنزيرًا في الوحل فتتسخ أنت ويستمتع هو. هذا ما حصل مع "حزب الله" الذي قرّر أن يقاتل إسرائيل، التي لا تزال تستمتع حتى هذه اللحظة في استهدافاتها اليومية فيما يجهد "حزب الله" على إظهار نفسه نظيفًا وغير متسخ من حرب قذرة استخدمت فيها إسرائيل كل المحرمات، من القنابل العنقودية إلى تفجير "البيجيرات، إلى اغتيال أمينيه العامين ومعظم قيادة الصف الأول في التراتبية العسكرية، إلى رفض الالتزم باتفاق وقف اطلاق النار، واستمرار احتلالها لأكثر من خمس تلال، والحؤول دون عودة الأهالي إلى قراهم حتى وهي مدّمرة، والضغط على المجتمع الدولي لمنعه من مساعدة
لبنان في مسألة إعادة إعمار ما دمّرته آلتها الحربية.
ففي هذه الذكرى السنوية الثانية لقرار جرّ لبنان إلى حرب لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل، يبدو المشهد في الجنوب مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه في الأيام الأولى من المواجهة. فـ "الحزب" الذي أراد من خلال مغامرته العسكرية أن يكرّس نفسه لاعبًا إقليميًا لا غنى عنه في معادلة "محور المقاومة"، يجد نفسه اليوم أمام واقع أكثر تعقيدًا، تتداخل فيه الخسائر البشرية والمادية مع أسئلة الداخل اللبناني ومواقف الخارج المتحفّظة أو القلقة.
فمن الناقورة إلى بنت جبيل، ومن ميس الجبل إلى حاصبيا، يسود هدوء نسبي يقطعه بين الحين والآخر قصف محدود أو اشتباك موضعي. لكن هذا الهدوء الظاهري يخفي تعبًا ميدانيًا واضحًا واستنزافًا متواصلاً لقواعد "الحزب" وبنيته العسكرية. فالمنطقة الجنوبية التي كانت حتى الأمس القريب عنوانًا للمقاومة والردع باتت اليوم مسرحًا لتبادل الرسائل أكثر منها ساحة معارك كبرى، وسط تراجع قدرة "الحزب" على مفاجأة العدو أو فرض معادلات جديدة.
داخليًا، لا شك في أن صورة "حزب الله" تغيّرت. فثمة من يرى فيه "درع المقاومة" الذي وقف إلى جانب غزة في أصعب الظروف وحامي لبنان من أي اعتداء، وثمة من يعتبر أنه زجّ بالجنوب والبلاد في مغامرة لا طائل منها. ووسط هذه الضبابية المتأرجحة بين قرار "حصرية السلاح" وإضاءة صخرة الروشة بصور السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، يتوزّع الرأي العام
اللبناني على أكثر من جبهة سياسية مليئة بالحذر المشوب بخوف حقيقي من إعادة عقارب الساعة الجنوبية إلى ما قبل 27 تشرين الثاني الماضي.
فالخسائر الكبيرة التي مني بها "الحزب" على مستوى الكوادر والقيادات الميدانية تركت جرحًا عميقًا في بيئته الحاضنة، التي وإن لم تتخلَّ عنه، باتت تميل إلى التريّث في دعم أي تصعيد جديد. أما القوى السياسية
اللبنانية الأخرى، فترى أن ما حصل في الجنوب كان تأكيدًا جديدًا على خطورة تغييب الدولة وقرارها السيادي، خصوصًا في ظل تراجع الاقتصاد وانهيار مؤسسات الخدمات العامة.
في التوازي فإن قدرة "الحزب" على التأثير المباشر في المشهد الميداني في غزة أو في القرار
الإيراني العام قد تراجعت. فبعد عامين من الحرب المفتوحة والمناوشات المستمرة، باتت الأولوية في طهران للملفات الديبلوماسية والاقتصادية، أكثر منها للتوسع العسكر، حتى ولو لم يكن ظاهرًا في التصريحات العلنية وفي الاعلام الإيراني الرسمي.
أما في
سوريا والعراق واليمن، فشبكة التحالفات التي يستند إليها "حزب الله" لم تعد بالتماسك ذاته، ما جعله أقرب إلى قوة دفاعية منه إلى رأس حربة في "محور المقاومة"، خصوصًا بعد سقوط نظام بشار
الأسد في سوريا، والذي كان داعمًا أساسيًا له.
فبعد عامين على فتح جبهة الجنوب، يمكن القول إن "حزب الله" خرج من المواجهة مثقلاً بالخسائر، لكنه يصر على القول بأنه لم ينهزم، وبأنه قد استعاد قدرته العسكرية بعدما فقد جزءًا من رصيديه العسكري والشعبي والسياسي.
فالجنوب اليوم، وبعد عامين من جعله ساحة مستباحة أكثر هدوءًا، لكنه أيضًا أكثر هشاشة. أما صورة "الحزب" فهي موزّعة بين صورة البطلٍ في عيون أنصاره، وبين صورة العبء على مشروع الدولة في نظر خصومه، فيما تبقى الحقيقة أن لبنان لا يحتمل بعد اليوم حربًا جديدة، ولا مغامرة جديدة تحت شعار "نصرة فلسطين"، خصوصًا إذا اكتملت مشهدية التسوية الأميركية في قطاع غزة.